لم يَمُرّ ما يكفي من وَقْتٍ كي يخْرُجَ الاتحاديون والاتحاديات، وكذا مناضلات ومناضلي اليسار والقوى الوطنية والديمقراطية، من فجيعة فقدان أخينا المجاهد
سي عبد الرحمان اليوسفي إِلى فجيعةٍ جديدة وفُقْدانٍ آخَرَ لاشك أنه وازن في النفوس المكلومة. ولا تكاد الذكرى الأربعون لرحيل سي عبد الرحمان تَمُرُّ حتى يغادرنا أخونا ورفيقنا وصديقنا المناضل الكبير الشَّهْم الصادق النَّزيه سي محمَّد الحَلْوِي.
لم يَكُنْ الحَلْوي مجرد مُحَامٍ مهَنيّ فحسب، له مسار غَنِيٌّ في عمله القانوني والحقوقي ظل دائمًا مثار تقديرٍ وتثمينٍ وإعجاب، وإِنما كان لَهُ حضوره الفاعل المؤثر في مَجْرَى حياتنا السياسية والتنظيمية، خصوصاً داخل حزبنا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ويمكنني أن أشهد بأن الحلوي كانت له دائماً قيمة تاريخية ومرجعية، وهي قيمة لا تُمْنَح للمناضلين جزافًا، وإنما تُكْتَسَب بالعطاء والتضحية والإِسهام في التراكم النضالي للحزب، وفي بناء ترسانته الفكرية والسياسية والأخلاقية. والحلوي كان مثالاً على هذا المستوى.
صحيح، لقد كان سي محمد الحَلْوي متواضعاً جدًّا، وعفيفًا جدًّا، وكانت مُرُوءَتُه يُضْرَب بها المثل، وكذا استقامتُهُ ونَزَاهَتُه أيضاً اللتان كانَتَا من مميزات شخصيته الإنسانية والنضالية. ولكنَّه، إضافةً إِلى هذه الخِصال، كان قائدًا اتحادياً كبيراً سَبَقَ الكثيرين مِنَّا إلى المواقع القيادية المتقدمة، خصوصاً حين انتخَبَهُ الطلاب المغاربة رئيساً لمنظمتهم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (UNEM) لولايتَيْن متتاليتَيْن 1961-1962 بل واختاروه ليواصل المسؤولية في اللجنة التنفيذية سنة 1963 إِلى جانب الأخ حميد برادة الذي ما كاد يتسلم رئاسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب حتى اضْطَرَّتْهُ الملاحقات لمغادرة المغرب إِلى المنْفَى، فقال القَدَرُ كلمته وقاد الحلوي المنظمة من موقع عضويته في اللجنة التنفيذية. ولكن الظروف الصعبة في تلك السنة لن تسمح بذلك أيضاً فَوجَدَ الحلوي نَفْسَه في السجن حيث قَضَى عاماً كاملاً خلف القضبان.
ومنذئذ، والحلوي في مواقع القيادة الاتحادية عضواً في لجنة إدارية، في لجنة مركزية، في مجلس وطني، في لجنة تحضيرية، في لجنة كفاءات، في لجنة مساعٍ حميدة، في لجنة حقوقية…، وذلك بدون أن يفرضَ نَفْسَه أو يقترِحَ اسْمَه. دائماً، كان إِخوانه يُقَدِّرون عِفَّتَه ويَضَعُونَه في المقدمة. وأبدًا لم يتسابق إِلى مسؤولية ولا نَافَسَ أحداً على منصب أو مهمة داخل الحزب أو خارجه. وكنا لانكاد نسمع صَوْتَه إِلا في الجهر بالحق والتعبير عن رأيه في مجريات واقعنا الحزبي.
لم أَرَ أشباهَا كثيرين في حزبنا لأخينا المرحوم سي محمد الحَلْوي، ربما أَذْكُرُ منهم – وأستسمح إن لم أَتَذكَّر بعضهم مِمَّن يَسْتَحقُّون الذِّكْرَ حقًّا، وللذاكرة نَقْصُها الخاص كما نعرف – سي محمد الصَّبْري، سي عبد الحق السَّبتي، سي الحبيب سيناصر
رحمهم الله جميعاً. طبعًا هناك الكثير من كبار المناضلين والمناضلات الأفذاذ، لكنني أشير هنا إلى طينةٍ خاصةٍ من المناضلين الذين كان عملُهُم في الظل أكثر من عملهم في الواجهات النضالية. والأَخ محمد الحلْوي كان بهذه الصفة المخصوصة أكثر خدمة لوحدة الحزب، وأكثر حرصاً على جمع الكلمة، وتَقْريب وجهاتِ النظر، وتخفيف النبرات الحادة، وعَقْلَنَة الخلاصات، وتركيب الوصفات والحلول، واقتراح الإِمكانيات التي تزرع الأمل وتوسع أسباب الثقة والثقة المتبادلة.
وربما بسبب تاريخه ومكانته وقيمته، وتحديدًا لدوره القَويّ المؤثر في مناطق الظل، كان قريباً بالخصوص من أخينا المرحوم سي عبد الرحيم بوعبيد، وكان قريبًا جدًّا من المرحوم سي عبد الرحمان اليوسفي، ينصتان إِليه بحرص واهتمام بالغَيْن، ويكلِّفانِهِ بالتزامات ومهام لا يقرأ المناضلون عادةً خَبراً أو تقريرًا عنها في صحافة الحزب. وكان ينجح رحمه لله في الكثير من المساعي لأنه كان يحظى بثقة الجميع، أصدقاءَ وخصوماً ومناوئينَ، ولأنه لم يكن يضع نَفْسَهُ حيث يمكن أن يكون طَرَفًا أو عنصرًا مُعَانِداً. وكان حِسُّهُ المرهف، وحِسُّه التاريخي، وحِذْقُهُ، ووعْيُه، وتكوينه القوي، وقدرته على الإنصات مما كان يُسَهِّلُ عليه تحقيق أفضل النتائج، والتواصل إلى أعمق الخلاصات.
من المؤكد أننا نفقدُ اليومَ في الاتحاد الاشتراكي للقواتِ الشعبية، ضِمْن عائلةِ اليسار وداخل القوى الوطنية والديمقراطية ككل، أَحَدَ كبارِنا، أحَدَ حُكَمَائِنا، أَحَدَ رُمُوزِنا، أحَدَ أبطالِنا، أحد صُنَّاع تاريخنا الحديث المعاصر، خصوصاً تاريخ الحركة الطلابية، تاريخ الحركة الاتحادية، تاريخ الحركة الديمقراطية، فَتاريخ الحركة الحقوقية. أقول ذلك باعتزاز، وأَشْهَدُ به بإِحساس نضالي رفاقي أَخَوي صادِق. وبالتالي، فالخسارة – بَعْدَ فقدان سي عبد الرحمان – تصبح بالنسبة إِلينا مُضَاعَفَةً ومؤلمةً ومُحْزِنَةً حَقًّا.
وتشاء الأَقدار أن يختم فَقيدُنا الكبير الأستاذ مُحمَّد الحلوي مَسَارَهُ المهني والنضالي الوطني بالمهمة القضائية النبيلة التي كَلَّفَهُ بها صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه لله عضواً في المجلس الأعلى للسلطة القضائية. كأنها إِشارة رمزية تقول الكثيرَ من الأشياء دفعةً واحدةً، ومنها أَنَّ التحولاتِ العميقة التي عَرَفَتْها المؤسسةُ القضائيةُ في بلادنا مع دستور 2011، وما أصبحت تتميز به العدالة من استقلاليةٍ، وهَيْبَةٍ مؤسساتيةٍ، وقاعدةٍ دستوريةٍ وتشريعية مؤكّدَة، وانفتاح على المكونات المَدَنِية والحقوقية، وروح من الإِشراك الملموس، لمِمَّا شَجَّعَ الحَلْوي بالتأكيد على تعزيز هذا الفريق النموذجي على رَأْس المؤسسة القضائية العليا، خصوصًا وأن الثقةَ الملكيةَ لم تكن من قبيل المجاملة، وإِنما لأن الحلوي رحمه الله كان يصلح – بالقُوَّةِ وبالفعل – ليكون أَحَدَ عناوين الأفق المغربي الجديد. ولقد شَرُفَتْ بِهِ هذه المؤسسة القضائية مِثْلَمَا شَرُفَ بها هو أيضًا.
رحم لله الأخ العزيز سي محمد الحَلْوي وأكرَمَ مَثْوَاهُ. والعزاءُ واحد

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الكاتب الأول يحضر اللقاء التواصلي الأول لنقيب المحامين بالرباط

تقديم طلبات التسجيل الجديدة في اللوائح الانتخابية إلى غاية 31 دجنبر 2023

الأخ عبد الحميد جماهري يشارك في الندوة الوطنية المنظمة من طرف حزب التقدم و الاشتراكية

الكاتب الاول ينعي وفاة الاخ عبد اللطيف جبرو