عبد الحميد جماهري

أسعفت الظروف القاسية لتطويق جائحة كوفيد 19، في حسم نقاش متردّد في أوساط النخبة المغربية، يتمحور حول شكل الدولة المطلوبة في بلاد عريقة، ومهيكلة، لكنها تشكو من عوز اجتماعي رهيب. وقد يكون الأمر متشابهاً إلى حدٍّ ما، مع دول كثيرة اجتاحتها الفيروسات الجديدة، من حيث إعلاء شأن الصحة والأمن والتوازنات الاجتماعية، لكنها في مغرب القرن الواحد والعشرين، سرّعت في إيجاد الجواب، ملخَّصاً في دولة عادلة، تسهر على صحة الفئات الهشّة، والحسم مع التردّد حول القطاعات التي تمسّ أوسع الطبقات، من قبيل الصحة والتغطية الاجتماعية والتعليم والحفاظ على مناصب الشغل. وكانت مناسبة بدء الدورة التشريعية في ولاية الحكومة والبرلمان الحاليين فرصة ليضع الملك، محمد السادس، في خطاب تناول فيه الوضعية العامة للبلاد، النقاط على الحروف الأخيرة في التوجه الجديد.
من جهةٍ ثانية، كشفت المعطيات الاجتماعية في المغرب أن أزيد من ثلث قطاعاته الاقتصادية غير مهيكل، بالمعنى الذي يعنيه ذلك من اشتغال خارج الخريطة القانونية والضريبية والحدود الدنيا المطلوبة في التأمين الاجتماعي، وهو ما يضع الاقتصاد برمته في خانة اللامهيكل، أو اللارسمي، إن لم نقل يجعل المجتمع برمته في هذه الخانة. وتبين أيضاً أن قرابة ستة ملايين عائلة مغربية في خانة الفئات الهشّة التي تستدعي حمايتها تدخلاً مباشراً من الدولة، من خلال تقديم دعم مادي شهري لكل أفرادها، وهو الأمر الذي قام به صندوق أُحْدث لهذا الغرض، بما مقداره 33 مليار درهم، في إجراء غير مسبوق في العهد الجديد في المغرب. غير أن مدة الصلاحية المالية لصندوق تدبير (إدارة) جائحة فيروس كورونا الجديد لن تتعدى شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وهو ما يطرح سؤالاً واسعاً وعريضاً عن أفق انتظار هذه العائلات، وكيفية التعامل مع خصاصها وهشاشتها في وضعٍ يتسم بانحسار الأنشطة الاقتصادية، وجمود المداخيل السياحية وأنشطة التصدير الفلاحي (الزراعي)، وتحويلات المغاربة الموجودين في الخارج، باعتبارها القنوات الأساسية في تمويل الدولة وميزانيتها وتوفير العملة لها.
لهذا، كان خطاب افتتاح الدورة البرلمانية بمثابة جدول أعمال دقيق، وبرنامج عمل للسنين الخمس المقبلة، يتجلّى القسط الأوفر فيه، في تنشيط دينامية الإقلاع الاقتصادي، وتمكين المقاولات (المشاريع) والمقاولات الصغرى من الحياة، وتوفير إمكانات لتنشيط أوسع، عبر إيجاد صندوق محمد السادس للاستثمارات الاستراتيجية، بما مبلغه 120 مليار درهم، منها 15 مليار درهم تقدّمها الميزانية العامة. في المقابل، ستعرف المدة السياسية نفسها إطلاق ورش اجتماعي كبير، وغير مسبوق طوال تاريخ المغرب المستقل، ويتجلى في تمكين ملايين المغاربة، أفراداً وأسراً من التغطية الصحية والاجتماعية والدعم التعليمي… إلخ.
وقد عرض ملك المغرب ما سمّاه المشروع الوطني الكبير، من خلال تعميم التغطية الصحية الإجبارية، في أجل أقصاه نهاية 2022 لمصلحة 22 مليون مستفيد إضافي، من التأمين الأساسي على المرض، سواء ما يتعلق بمصاريف التطبيب والدواء، أو الاستشفاء والعلاج، وتعميم التعويضات العائلية، لتشمل ما يقارب سبعة ملايين طفل في سنّ الدراسة، تستفيد منها ثلاثة ملايين أسرة، وتوسيع الانخراط في نظام التقاعد، لنحو خمسة ملايين من المغاربة الذين يمارسون عملاً، ولا يستفيدون من معاش، وتعميم الاستفادة من التأمين على التعويض عن فقدان الشغل، بالنسبة إلى المغاربة الذين يتوافرون على عمل قارّ، وهو ما يعني تحولاً استراتيجياً في النقاش حول طبيعة الدولة المنتظر بناء نموذجها. ولفهم هذا التحول العميق، تكفي الإشارة إلى أن النخبة المغربية، بكل مكوّناتها، بدأت تطبّع مع نقاط جدول أعمال في الفضاء العمومي، يعيد النظر في طبيعة تدخل الدولة في قطاعاتٍ اجتماعيةٍ حيوية، وأولها التربية والتكوين. وكانت القناعات قد بدأت تتشكل، حتى داخل الحكومة، بأن على الدولة أن تنقذ نفسها، وتخرج نهائياً من تدبير هذا القطاع، بل كان الرئيس السابق للحكومة، عبد الإله بنكيران، قد دعا صراحة، قبل الحملة الانتخابية لسنة 2016، التي فاز فيها حزبه، العدالة والتنمية، إلى ضرورة التخلي عن الصحة والتدبير الصحي، بالشكل الذي اعتاده المغاربة، وهو كان بذلك يدعو إلى سياسة ليبرالية متقدّمة، نحو التخلي عن التسيير العمومي للقطاع الصحي.
وفي سياق مختلف، تعالت الدعوات إلى إعطاء ذات اليد لكبار رجال الأعمال، من خلال فرض مرونةٍ كبرى للتشغيل، تعطي الهامش واسعاً للمقاولات وأرباب العمل في تسريح العمال وطردهم، وكذا التخفيف من الكلفة الاجتماعية للمقاولات… إلخ. ويبدو أن هذا المسار الليبرالي الذي كان يرى في الدولة عالةً أكثر منها راعية، قد اختفى، ليس ظرفياً فقط من خلال ما تطرحه الظروف الوبائية، بل من خلال الحسم الملكي في طبيعة البرنامج الاجتماعي والاقتصادي للدولة المغربية، بغضّ النظر عن البرامج الانتخابية للأحزاب والمنظمات النقابية التي تستعد لخوض معركةٍ غير مسبوقة. وفي حقيقة الأمر، كان العهد الجديد، من بداياته، يطمح إلى تسوية جميع النقاط الخلافية والجارحة التي ورثها عن العهد السابق، للتفرّغ لمعضلة التنمية البشرية. وكان لافتاً أن العهد الجديد بدأ بتصفية الإرث الحارق للمرحلة التي حكم فيها الراحل الحسن الثاني، والتي اتسمت، في جزءٍ كبير منها، بسنوات الرصاص والجمر، عبر تصفية ملفات المحكومين، وكشف حيثيات الإغتيالات وظروف القمع الشرس للستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ثم تواصل العهد الجديد بانطلاق مسلسل واسع للمصالحات الكبرى السياسية (من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة التي كشفت الغطاء عن القمع السياسي ومعاركه المتعدّدة والحقوقية) من خلال تحديث مدوّنات المرأة والطفل، والوصول إلى ترضياتٍ واسعة، قاد التحكيم فيها الملك نفسه، والجغرافيا المجالية عبر جبر الخاطر في المناطق التي كانت تعدّ مغضوباً عليها، مثل الريف والصحراء والأطلس، والثقافية، عبر دسترة اللغة الأمازيغية، وكل ينابيع الحضارة المغربية الأفريقية والأندلسية والعبرية والعربية، وكثير من القضايا الخلافية داخل المجتمع، قبل تتويج ذلك بتعديلاتٍ دستوريةٍ عميقة، أدخلت التنظيم الإسلامي السياسي (حزب العدالة والتنمية) إلى سدّة الحكم، عبر صناديق الاقتراع، عشر سنين متتالية.

وكان الهدف الأسمى من هذه الإصلاحات الكبرى إنجاح الانتقالات التي تفرضها الأوضاع في البلاد، والاستقرار في سلاسةٍ ديمقراطيةٍ لا تهزّها المطبّات، وكذا الحرص على تصحيح المؤشّرات التنموية، أغلبها في الأحمر، وتعديل الثروة وتوزيعها. وقد تميّزت التوجهات الحديثة بالبحث عن نموذج تنموي جديد، المراد منه وضع الأسس لنموذج مغربي يضمن الكرامة والتوزيع العادل للثروة، والرفع من تنافسية المقاولات ونسبة النمو، والخروج من التوازنات الظرفية إلى توازن مجتمعي كبير.
ولهذا ربط المغرب بين إنجاح الأوراش الاجتماعية والاقتصادية بضرورة النجاح في إيجاد نموذج تنموي جديد، يكون مغربياً مغربياً، بأهداف واضحة. وسبق لكاتب هذه السطور أن حضر اجتماعين للجنة المكلفة من الملك بصياغة النموذج المعنيّ، وهي لجنة من الخبراء الدوليين والكفاءات الاقتصادية والفكرية التي باشرت مناقشات ولقاءات تشاورية وجمعت آلاف الوثائق لبلورة هذا النموذج. ومما تقدّم به رئيس اللجنة، وهو سفير المغرب في باريس، أن أشغال اللجنة وصلت إلى توافقات كثيرة بشأن ما يريده المغرب، تمسّ بالأساس إيجاد الثروة، مادية وغير مادية، وحسن توزيعها، وتقوية الرأسمال البشري، وتكافؤ الفرص والعدالة المجالية، وتقوية الرباط الاجتماعي والتضامن، والاندماج في دورة التنمية، ووضع أسس للثقة بين الدولة ومؤسساتها وبين المجتمع، وتطور حكامة وطنية متقدّمة وشفافة وناجعة، تعطي الدولة من خلالها النموذج في الطهارة والجرأة والفعالية. وهي توافقاتٌ كبرى تعطي الطابع الاجتماعي والقوي للدولة، مقابل مجتمع متضامن، يساهم فيه الجميع على قدم المساواة.
ومن المتوقع أن يساهم هذا النموذج القومي الذي يتزامن موعد تسليم وثيقته لعاهل البلاد مع بداية السنة المقبلة، في وقت انطلاق الأوراش الاجتماعية الشاملة، في تقوية الطابع الاجتماعي الحمائي للدولة المغربية، والحسم مع تردّد النخبة، بخصوص الأفق الذي يجب أن تشتغل به. وكما سيشكل مرجعاً إنسانياً للسياسات العمومية، فمن المفترض أيضاً أن يشكّل إطاراً قانونياً ومرجعاً مادياً في التوجّه نحو المغرب الممكن. وتبقى إحدى معضلات البلد، ولا شك، في كيفية تفعيله وتنزيله على أرض الواقع، ودرجة انخراط مكوّنات النخبة فيه، فالنموذج، مهما كانت أهميته، مرتبط بانخراط الأطراف المكونة له، ووضوح رؤاها بخصوص الوصول إلى أهدافه.
نشر في موقع
«العربي الجديد»

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..