تتميز المجتمعات الحديثة ، بتعدد التيارات السياسية المعبرة عن تطلعات أي مجموعة بشرية داخل دولة معينة . وقد أصبحت هذه القاعدة بمثابة بديهية لا تحتمل أي نقاش . إلا أن الملاحظ هو أننا في القرن الواحد والعشرين ، لكننا مازلنا نعثر في الحياة الدولية على نماذج ترجع إلى عهود بائدة .
فهل يمكن أن نتصور أن هناك مجتمعا ينتمي بأكمله إلى تيار سياسي واحد ؟! نعم يحدث ذلك في إطار ما يسمى « البوليزاريو : الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب « ، ورغم أنها جبهة ، فلا تضم إلا تيارا واحدا ينادي بالأطروحة الانفصالية .
فهل يمكن تصور مجتمع كامل يؤمن بنفس الفكرة ؟ وهل هذا « الشعب الصحراوي « لا يعرف وجود اشتراكي واحد ، ولا شيوعي واحد ، ولا إسلامي واحد …؟!!! وبالتالي ، هل يتعلق الأمر بحركة تحرر حقيقية نحن ملزمين بالتفاوض معها ، أم  الأمر يتعلق بتجربة لا مثيل لها في الحياة الدولية ؟ ذلك ما سنبحث فيه من خلال هذه المقالة .

تمهيد

كثيرا ما يصرح المسؤولون الجزائريون والأطراف المعادية للمغرب ، بأن قضية الصحراء المغربية ينبغي أن تعالج في إطار « تصفية الاستعمار « ، وأن ذلك يستلزم مفاوضات مباشرة بين المغرب وجبهة « البوليزاريو « ، لكنهم يقفزون على العديد من الحقائق التي طبعت مسيرة حركات التحرر الوطنية التي قادت شعوبها إلى الاستقلال بدعم من المجموعة الدولية .
لذا ، فإن هذه المقالة ، ستحاول أن تبين أن الأمر يتعلق هنا بحالة لا يمكن معها  تطبيق المعايير الدولية لإجراء مفاوضات بالمعنى المتعارف عليه .

تذكير بالحالات العادية

إن الاستناد إلى التجارب الدولية ، يبين –بوضوح- أن تصفية الاستعمار لا تعني دائما الاستقلال . وقد سبق للأمم المتحدة أن نظمت استفتاءً في الطوغو البريطاني سنة 1956 قرر السكان من خلاله الاتحاد مع دولة غانا ؛ كما أن الاستفتاء الذي أجري في الكاميرون الجنوبي خلال سنة 1961 أدى إلى الانضمام إلى جمهورية الكامرون ، وأن الاستفتاء في الكامرون الشمالي خلال نفس السنة أدى إلى الانضمام إلى فدرالية نيجيريا . وهذا يدل على أن القاعدة الأولى لأية مفاوضات ينبغي أن تستحضر هذه المعطيات ، وإلا فإن الأمور لا تعدو أن تكون مضيعة للوقت .
أين هذا من ذاك
تبعا لما سبق ، فإنه حتى إذا سلمنا نظريا أن الأمر يتعلق بقضية الصحراء ، فإنه ينبغي أن تتوفر في الطرف الذي سنتفاوض معه بعض الخصائص ، أو على الأقل حد أدنى مما كان لدى حركات التحرر الوطنية التي فرضت نفسها من خلال مصداقيتها ، واليكم بعض الأمثلة :
أولا : أين « البوليزاريو « من حركة سوابو في ناميبيا ؟
إن الجبهة الشعبية لتحرير جنوب غرب أفريقيا ( سوابو ) التي قادت ناميبيا إلى الاستقلال ، لم تتمكن من ذلك إلا في ظل شرطين أساسيين : إجماع المنتظم الدولي ( دولا ومنظمات دولية ) على عدالة قضية ناميبيا من جهة ، ومصداقية حركة سوابو التي كانت الممثل الشرعي للشعب الناميبي ليست كحركة تحرير وحيدة فرضت نفسها على الساحة ، ولكن كجبهة تعمل ضمن تعددية حزبية .
لقد كانت ناميبيا تتوفر على 11 حزبا سياسيا ( الحزب الفدرالي ، الحزب الوطني ، الحزب الليبرالي ، جبهة تحرير الشعب الناميبي ….) ولكن الشعب الناميبي اختار حركة سوابو ودعمها لتكون بمثابة الناطق الرسمي دون وصاية من أية جهة .
فأين « البوليزاريو « من هذا ؟!!!! حركة وحيدة ، تفرض نفسها على السكان ، ولا تترك لهم حرية اختيار من يدافع عن مصالحهم .
ثانيا : أين «البوليزاريو « من جبهات تحرير أريتيريا ؟!!!
بنفس المنطق السابق ، نقول إن أريتريا ، رغم عدالة قضيتها ، والإجماع الدولي الذي حصل حولها ، فإن استقلالها تم وسط تعددية حزبية ( الحزب الوحدوي ، حزب التجمع الإسلامي ، الحزب التقدمي الليبرالي ….) ومن خلال نضال جبهة تحرير أريتريا والجبهة الشعبية لتحرير أريتريا .
ومرة أخرى ، يتبين أن الشعب الأرتيري لم تفرض عليه بدوره أية وصاية من أية حركة وحيدة مثل ما يفعله « البوليزاريو « .

صعوبة فرض وصاية
على الشعوب

لن نعدد الأمثلة ، ولكن يكفي أن نقول إنه لم يعد من السهل الآن فرض جبهة أو حركة أو حزب واحد على شعب بأكمله . ولنا في القضية الفلسطينية ( دون أية نية في المقارنة ) نموذجا للشعب الذي يخضع لاستعمار استيطاني عنصري صهيوني / ومع ذلك لم تستطع أية حركة أو جبهة فرض نفسها كوصي على الشعب الفلسطيني : فمن خلال حركة « فتح « ،والجبهة الشعبية ، والجبهة الديمقراطية ، وحركة حماس …يعبر الفلسطينيون عن تطلعاتهم ، ولم تكن هناك من إمكانية لفرض أية « جبهة « إلا من خلال التوافق حول منظمة التحرير الفلسطينية.

المكانة الحقيقية للبوليزاريو

إن النماذج السابقة ، تخلص بنا إلى قاعدة تعدد الهيئات المعبرة عن تطلعات أي مجتمع ، فلماذا تصر بعض الأطراف على ضرورة التفاوض مع البوليزاريو لوحده ؟ بل لماذا لا نسمع إلا عن حركة « يتيمة « تفرض نفسها على السكان جبرا ؟ ولماذا لا يسمح « البوليزاريو « للسكان الصحراويين بحرية الرأي والتنظيم ؟
أعتقد أن هذه الحركة ، ليست إلا فصيلا من الحركة الوطنية الأم ، فلا يمكن والحالة هذه التفاوض إلا مع مجموع هذه الحركة وليس مع جزء منها . إن أي تفاوض حول مستقبل الصحراء لا بد وأن يتم مع حزب الاستقلال ، والاتحاد الوطني / الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، ورثة حزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي المغربي .
إن هذه الأحزاب هي التي تتشكل منها الحركة الوطنية المغربية التي كانت تناضل ضد الوجود الاستعماري الفرنسي والاسباني معا ، فلا يمكن بتاتا أن يتحكم الجزء في مصير الكل . لا يمكن أن يتم التفاوض مع « البوليزاريو « لأن رأيه لا يمثل إلا رأي أقلية قليلة يجب عليها الانضباط لاختيار الأغلبية الساحقة التي قالت كلمتها ومازالت متشبثة بها .
إن وجهة نظري تتلخص في أن الشعب المغربي عبر من خلال العرش من جهة ، ومن خلال الحركة الوطنية من جهة أخرى ، عن تطلعاته للعيش في إطار دولة مستقلة عن الاستعمار الفرنسي والاسباني .
لذا ، فإن أي تفاوض محتمل ينبغي أن يتم بين الأحزاب المغربية المشار إليها أعلاه ( الاستقلال ، الاتحاد الاشتراكي ، ورثة الحزب الشيوعي وبقايا حزب الشورى والاستقلال ) وجبهة  « البوليزاريو»  . لأن الأمر هنا يتعلق بحركات من طبيعة واحدة . أما أن تتفاوض الدولة المغربية مع جبهة حزبية ، فهذا غير مستساغ وليس من مهام الدولة إلا إذا كان ذلك في إطار مشاورات مع كل فصائل الحركة الوطنية .

موضوع التفاوض

بناء على هذا التصور، يمكن الآن أن نتساءل عن موضوع التفاوض الذي سيصبح شأنا حزبيا داخليا .
إن المغرب من خلال تحرير المناطق الشمالية والجنوبية من الاستعمار الاسباني ، والمناطق الوسطى من الاستعمار الفرنسي ، لا يمكن إلا أن نعتبر أن القضية الوطنية تكاد تستنفد ، وأنه قد حان الوقت لتعميق القضية الديمقراطية .
إن المسألة الديمقراطية هي أساس أي تفاوض محتمل ، ذلك أن هذا المسلسل سيفتح للمغرب آفاقا واسعة إذا تم التعامل مع الموضوع في شموليته . إن المقصود هنا هو الديمقراطية السياسية النزيهة القادرة على التأثير على جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
هكذا نتفاوض حول طرق التقليص من الفوارق الاجتماعية ، ووسائل التقليص من الفوارق بين الجهات ، وحل المسألة اللغوية ، وحقوق الإنسان ، وفعالية المرأة …وكل ذلك في أفق تفعيل نظام جهوي فعال .
إن هذه المواضيع هي أساس أي تفاوض محتمل ، ومن المؤكد أنها سوف لن تدفع المغرب إلا إلى المزيد من التقدم دون تخوف من أي انحراف ما دام أن العرش والمؤسسة الملكية هي الضامن لوحدة البلاد.