التطورات النوعية التي حركت معطيات قضية الصحراء المغربية، عبر المد الديبلوماسي الذي اكتسحها بقنصليات أجنبية وباعترافات رسمية وازنة، تكرس شرعية الحق المغربي فيها وصوابية مقترح الحكم الذاتي المغربي لحل المنازعة حولها… تلك التطورات التي أطلقت متغيرات جيوستراتيجية في المنطقة، وتمكن المغرب من قدرات جديدة ومؤثرة في حركيته، خاصة مع الحلول النوعي، في المنطقة وفي مسار حل النزاع، للإدارة الأمريكية ولدول خليجية. مع كل ما لتلك الحلول من امتدادات ومفاعيل ارتدادية سياسية واقتصادية، تعيد تشكيل التأطيرالاستراتيجي للمنطقة من الفاعلين أو المتدخلين فيها.
اسبانيا المتصلة بالمنطقة وبقضية الصحراء بالتماس الجغرافي مع المغرب وبتاريخ استعمارها للمنطقة… معنية بأن تجدد تفاعلها وموقعها في المسار الاستراتيجي والتنموي للمغرب، وأن تضخ في قربها الجغرافي والتاريخي مع المغرب أنفاسا جديدة تنمي التقارب معه وتجلي غبش التباسات تتعاطى بها في علاقاتها معه… وذلك بالقطع مع بعض تأرجحاتها وبعض ارتباكاتها.
بعض أطراف الفعل السياسي الاسباني، المصنفة يمينية، يسكنها عداء للمغرب، حتى وهي لا تقولها بوضوح، موروث من تلك العقيدة العسكرية التاريخية التي يفترض أنها تقادمت ومفادها «المغاربة يهجمون» ‘(إلمورو أتاكا).
بعض الأطراف الأخرى المصنفة يسارية جدا، تحشر نفسها في النزاع حول الصحراء المغربية، من موقع الراعي لحركة البوليساريو الانفصالية كما لو أنها الأب غير الشرعي لها، يكفر عن خطيئته. وتحاول النفاذ بتلك الرعاية إلى العلاقات الاسبانية المغربية لتفرمل حركيتها.
وتجد الأطراف الأخرى من اليمين ومن اليسار، نفسها في موقع المهادن والمتردد والمساير، مما يسمح بأن يسري في وعي، وحتى لا وعي، عموم النخبة الحاكمة أو الفاعلة في اسبانيا، توجس وحذر من المغرب، يحدث لديها ارتباكا في التعامل معه، ملحوظ وصارخ للملاحظ…
عدم تناسب وعدم تفاعل ما بين السياسي والاقتصادي في العلاقات الاسبانية مع المغرب. أزيد من 1000 شركة اسبانية تستثمر في المغرب. اسبانيا تجاوزت في ذلك فرنسا الشريك التقليدي للمغرب. إلى حدود الفصل الأول من ديسمبر 2019، أثبت مكتب الإحصاء الأوروبي أن إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب، سواء من جهة الواردات أو الصادرات. وهي تحوز على نسبة 33,5 في المئة من مجموع الصادرات الأوروبية للمغرب، بعيدا عن فرنسا وألمانيا مثلا. والمغرب بهذا هو الوجهة الأولى للاستثمارات الاسبانية في افريقيا. يضاف إلى ذلك الاتفاقات المغربية الأوروبية في الصيد البحري والتي تستفيد منها اسبانيا أساسا. إنه ضمور في السياسة يقابل كثافة الحضور الاقتصادي. غير معقول.
اسبانيا، الحكومة، بكل تلك المعطيات، بتلك الحظوة التي مكنها المغرب منها، يفترض أن تجعل من السياسة أسمنت تمتينها وتأمينها، وهي تستشعر ضراوة المنافسة على «المجال» المغربي من جهة عدة أطراف أوروبية، الصين وتركيا وغدا أمريكا واليابان … لن أعود إلى سوابق المشاغبة الاسبانية ضد المغرب في سعيه لإرساء دعامات قوية لاقتصاده. من نوع تشييد ميناء طنجة المتوسط، وما أبدته اسبانيا من مشاكسات ضده… وقد حاولت التأثير على الاتحاد الأوروبي في عدم التجاوب مع طلبات المغرب للدعم أو للاقتراض من أجل إنشائه… وهو ما فوت على اسبانيا إمكانية الاندماج في ذلك المنجز الاقتصادي المتوسطي والذي له اليوم عائدات ربحية هامة اقتصاديا وتجاريا واجتماعيا وسياسيا.
لنبقى في هذا الحاضر الذي نعيشه، اجتماع اللجنة العليا المشتركة، التي تبحث مجالات وآفاق التعاون في جملتها… تأخرت عن الانعقاد.. مرتين وهي تؤجل بأعذار غير مقنعة… وعاد مؤخرا رئيس الحكومة بدرو سانشيس في اجتماع مع السفراء، هو الأول منذ 2008، ليعوم ذلك الاجتماع ضمن استراتيجية اسبانيا مع دول المغرب الكبير… إنه الارتباك والتردد في هذه العلاقة لأسباب داخلية وربما، لمراعاة خارجية.
لو أن الحكومة الاسبانية أسست على موقعها الاقتصادي المميز في المغرب وتفاعلت مع معطيات التحولات المغربية الناضحة بخصوبة المسار التنموي الذي يقوده جلالة الملك على مدى عقدين… مسار أنتج مغربا آخر متحرك على سكة التقدم، ومن أبرز مؤدياته تعضيد البعد الإفريقي المغربي… بما قلص من الميولات الانعزالية، ونمى النفس التضامني والتعاوني والتفاعلي بين المغرب وعديد من الأقطار الإفريقية… وبالتالي ضمرت وانكمشت حاضنات العداء والانفصال ضد المغرب… وبالتالي كانت اسبانيا ستذهب بعيدا مع المغرب إلى إفريقيا، التي هي المستقبل المشترك للمغرب واسبانيا، لو أن تلك «اللو» تحققت، لكانت اسبانيا أسبق إلى الصحراء وإلى الداخلة من الإدارة الأمريكية… ولما كانت انزعجت من الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وقد قرأته موجه ضدها… فقط لأنه يقوي المغرب، يدعم مساره التنموي، ينتصر لحقه الوطني، يعزز مقترحه السلمي لحل النزاع، يبطل مفعول استفراد، حتى لا أقول ابتزاز، اسباني متوهم للمغرب.

منذ 2008 لم ينعقد مؤتمر السفراء الاسبان في مدريد. انعقد الاثنين المنصرم. باتت السياسة الخارجية الاسبانية في حاجة إلى إعادة تأطير وتوجيه.. ليس بسيط ما يحدث جنوب المتوسط والذات في المغرب. في المؤتمر قالت وزيرة الخارجية الاسبانية السيدة غونزاليس لايا أنه «من الضروري إعادة التفكير في العلاقات عبر الأطلسي» التي تجمع اسبانيا مع الولايات المتحدة الأمريكية» مضيفة أن «ترامب تحدى قواعد اللعب على الصعيدين الوطني والدولي بطرق مختلفة وخلق حالة من عدم اليقين». للعودة إلى ما تعتبره الوزيرة يقينا وقواعد لعبة مريحة لها، سارعت إلى الإعلان عن وجود اتصالات بين اسبانيا ومساعدي الرئيس بايدن من أجل إلغاء قرار ترامب بخصوص مغربية الصحراء، (وقد نقل عن الرئيس الأمريكي الجديد تمسكه بقرار ترامب)… إذا لم يكن هذا انزعاج من تحقيق المغرب لمكتسب هام وانحشار في علاقة ثنائية سيادية له مع بلد آخر… فماذا يكون… ولم تكن الوزيرة، في هذا التصرف بمفردها، بل إن بابلو اكليسياس زعيم حزب بوديموس، المشارك في الحكومة يتحرك في نفس الاتجاه… وترجمة «حالة من عدم اليقين» سياسيا، هي أوضاع جيوستراتيجية جديدة، وهي التي استدعت عقد المؤتمر نفسه لبحث «برامج ومبادرات تستهدف تقوية حضور اسباني على الساحة الدولية» كما قال رئيس الحكومة السيد بدرو سانشيس، مضيفا بأن «هذا العقد يجب أن يكون عقد افريقيا» بحضور أكبر للشركات الاسبانية في إفريقيا… في اتجاه هذه الإستراتيجية، وبنظر واقعي، يفترض أن تضع اسبانيا يدها في يد المغرب، ليذهبا سويا، بتعاون وعلى قاعدة رابح رابح إلى افريقيا، وأن يستدعيا افريقيا إلى شمالها وإلى البحر الأبيض المتوسط… غير أن السيد سانشيس لم يقدم للمغرب، في المؤتمر ما يطمئنه على تصرف اسباني في حكيم في موضوع نزاع الصحراء، يستفيد من متغيرات الملف ومتغيرات المنطقة كلها، حين تحدث عن «الحاجة إلى استئناف المفاوضات من أجل إيجاد حل سياسي عادل ودائم للنزاع في الصحراء الغربية»…أسقط من تعريفه للحل شرطية التوافق عليه ومقبوليته من الأطراف، بما يلغي مطلب الجزائر لتقرير المصير. متجاوزا بذلك قرار مجلس الأمن الذي يعيب على ترامب أنه خرقه. بينما سبق لوزيرة الخارجية في حكومته في تصريح سابق لجريدة اسبانية، قبل مؤتمر السفراء، أن قالت «مايهم الآن هو أن يقوم الأمين العام للأمم المتحدة بتعيين مبعوث خاص جديد للصحراء الغربية لقيادة الجهود للتوصل إلى حل متوافق عليه بين جميع الأطراف». من يصدق المغرب، الوزيرة أم رئيس الحكومة. إنه الارتباك في التوجهات الاسبانية والمقلقة للمغرب…
وليس مهما أن نتوقف عند توجسات ومخاوف مختلقة أو متوهمة من تداعيات على تغييرات في توازنات القوى العسكرية في المنطقة. إذا ما عزز المغرب ترسانته العسكرية، بصفقات أسلحة متطورة مع الولايات المتحدة تشمل طائرات نفاتة وطائرات مسيرة وحى آليات مدفعية بالغة الفعالية وبعيدة المدى… أما بهارات هذه التخوفات من تدجيج القدرات العسكرية المغربية فهو الحديث، غير المسنود وغير الرسمي وحتى جرى نفيه، عن احتمال نقل القاعدة العسكرية الأمريكية من قادس جنوب اسبانيا إلى القصر الصغير. وقد وجد من «فتح» قاعدة عسكرية أمريكية في الصحراء المغربية. وتم نفي وجود النية في ذلك.
لا يتوهمن أحد في اسبانيا، أن يكون المغرب، مستكينا تحت جناحها وأن يكون مجرد مفيد لها، وكما تريد هي… مفيد لها وهو يفتح لها مجالات متنوعة، وبأفضليات للاستثمارات… مفيد لها وهو يطارد، لخدمتها، أفواج المهاجرين غير الشرعيين، في البر وفي البحر… مفيد لها وهو يسعفها بخبرته الأمنية المثبتة الفعالية في مواجهة الإرهاب… المغرب يريد أن يتبادل الفائدة والإفادة مع اسبانيا… سويا، يفتحا معا آفاق جديدة في علاقاتهما الثنائية، الغنية والواعدة وذات الروافع التاريخية، الجغرافية، السياسية والاقتصادية… يربحا معا، ويشتركا معا في الربح، في السلم، في الأمن وفي التقدم… بدل أن تركب أطراف سياسية اسبانية صهوة مبدأ «تقرير المصير» الفضفاض والمتعدد الصيغ والتطبيقات… تلك الأطراف نفسها ومعها غيرها داخل اسبانيا، التي رفضت الانفصال لكتالونيا وللباسك، وقررت لهما الحكم الذاتي أو التسيير الذاتي صيغة ديمقراطية لتقرير المصير داخل الوطن الواحد… بدل أن تركبها وتزعج مسار منطقة وشعوب ودول نحو التقدم… ليتحكم العقل والمصلحة التاريخية والفائدة المشتركة لانتهاز ما تفتحه التطورات الأخيرة في الصحراء المغربية، وللمغرب والمنطقة عامة… لكي تتضافر الجهود وتتفاعل في العلاقات الثنائية والعلاقات المتعددة الأطراف، من أجل فتح بل اقتحام، آفاق تنموية منتجة ومثمرة للجميع.
من ينهل من عسل المغرب… غير مقبول أن يعاند ويقلق العسال.