– 1 – معنى الحوار ومداه السياسي
كان رئيس الحكومة سعد الدين العثماني محظوظا للغاية، وهو يتوصل بـ 23 مساهمة من هيئات ومنظمات سياسية ونقابية، حول تدبير المرحلة وما بعدها، غير أنه في ما يبدو لم يكن محظوظا في الاهتداء إلى ما سيفعله بها، أو هذا، على الأقل، ما كشف عنه أمام البرلمان.
فالدكتور العثماني، كان يوم الثلاثاء في أوج سروره، وهو يكشف أن رئاسة الحكومة توصلت »بـ23 مذكرة غنية بالتقييمات والمقترحات من 27 هيئة، وذلك في إطار بلورة حوار وطني حول المرحلة الحالية والمستقبلية«.
والواضح أننا فهمنا – أي كل عباد لله الفقراء إلى رحمة ربهم- من ذلك، أنه يتوخى فكرة حوار وطني، عام وشامل حول الهنا والآن، وحول المستقبل، وأنه سيقدم خارطة واضحة للحوار الذي يعنيه، ومداه ونقط وصوله….
بيد أن الرجل سرعان ما وزع الحوار.. بالتقسيط على القطاعات الحكومية عندما قال: «نحن بصدد دراستها- يعني المقترحات- في رئاسة الحكومة، وبصدد إرسالها إلى مختلف القطاعات الحكومية المعنية لأخذ مقتضياتها بعين الاعتبار في وضع خطة إنعاش الاقتصاد الوطني وإعداد مشروع قانون مالية تعديلي برسم 2020».
نفهم أن سقف الحوار الوطني هو «قانون المالية التعديلي»، نفهم من هذا أن الذي سيتولى تفعيل الحوار، أو بالأحرى تجزيئه، هي القطاعات الحكومية، فتذهب حكمته ما بين الوزارات…
ونفهم من ذلك أن ما سيأخذ منها كل قطاع هو قطع غيار في تعامل فسيفسائي متوزع على حاجاته…
ونفهم في النهاية أن الحوار الوطني مجرد تدبير تقني، ولا محتوى أو مضامين سياسية له.
وبالتالي فيمكن أن نختزل الحوار، أي حوار تقوده الحكومة، في مقترحات – مختلفات تقنية- بلغة الاجتماعات الرسمية المعتادة.
والحال أن مضامين الحوار الوطني أعمق بكثير من ذلك، وأكثر قدرة على إعطاء النفس السياسي المطلوب في عمل أية هيئة أودولة أو غيرها.
ولم يستعمل الحوار الوطني بهذا الطابع المبتسر والاختزالي، حتى في الشؤون ذات الطبيعة المالية المحضة، مثل الجبايات مثلا أوالقانون التنظيمي لقانون المالية حتى….
فالمنتظر من حوار وطني، عندما يعلن عنه رئيس حكومة، أو كما تعارف عليه متابعو الحالة السياسية هنا وفي العالم؟ هو شيء يتوقع حدوثه، كما ألفناه طوال العقدين الأخيرين من القرن الماضي وثم في أول القرن الحالي، جراء ثورات او انتقالات حادة ونزاعات داخلية، تعطي فرصة للدولة ومؤسساتها من أجل بناء مشترك أقوى ومن أجل ضمان اشتغال المؤسسات بقصدية مبتكرة بهدف بلورة عقد اجتماعي جديد.
وهذه كلها أبعاد أبعد ما تكون عن السياق الحالي، لا سيما وأن الدكتور العثماني سبق له أن صرح، بقبعة الأمين العام للحزب، أن البلاد أبعد ما تكون عن اللااستقرار وأن كل شيء على ما يرام….
هل هناك إذن مدعاة لاستعمال تعبير الحوار الوطني؟
ما يتبقى منه، هو حده الأدنى، وهو البحث عن قاسم مشترك بين مراكز ضغط ومصالح متباينة، إنْ لم تكن متناحرة، كما هو حال الفئات الاجتماعية المتضررة من كورونا…
وهنا أيضا لا بد من خارطة ذهنية واضحة لدى الرئيس، كي يستطيع وضع تركيب يرضي الجميع… وفي حالة انعدامه، كما هو مقترح علينا من خلال إحالة المساهمات على القطاعات وتفكيكه إلى بنود معزولة، يكون الحوار الوطني بمثل هشاشة الوضع الذي يكون عليه معالجته، بمعنى آخر تكون وسيلة التغيير نفسها بمثل هشاشة الوضعية التي تريد حلها.
إلى جانب ذلك، تحبل المرحلة بخاصيات لا يمكن القفز عليها، ومنها على الوجه الأخص، قصر المدة المطلوبة لهذا الحوار وتنفيذ ما يتم الموافقة عليه، وهو ما يؤثر بلا شك في حجم ومدة العملية التي يريدها الحوار الوطني…
زد على ذلك، صعوبة دمج مساهمات الجميع في قالب واضح وعملي ومتناغم، والأخذ بأوسع مشاركات ممكنة في دينامية قابلة للتفعيل.
– 2 – مساهمات ما فوق التقنية وما تحت السياسية
قلنا:كان رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، محظوظا للغاية، وهو يتوصل ب23 مساهمة من هيئات ومنظمات سياسية ونقابية، حول تدبير المرحلة وما بعدها، غير أنه في ما يبدو لم يكن محظوظا في الاهتداء إلى ما سيفعله بها!
فهو حوار وطني.. تنقصه النية في ما يبدو.
كيف ذلك؟
لقد سبق أن أثرنا ضرورة وجود carte mentale أو الخارطة الذهنية لدى السيد رئيس الحكومة، من أولوياتها، بالتأكيد، وجود تحليل دقيق ومقنع لأوضاع الكارثة، مع ما يتطلبه ذلك من
تحديث للوقائع وتحيين للمعطيات وتوفير للأرقام والوضعيات، ثم الانتقال إلى تأكيد الإرادة السياسية، في تحديد أطراف العملية برمتها، وهو أمر حصل بدون كبير عناء، ثم مواقع ومواقف كل طرف والبحث عن دعم لهذا البرنامج المنبثق عن الحوار الوطني، ماليا وسياسيا، داخليا وخارجيا.
ويتوقف هذا الأمر، أي ملامح خلاصات البرنامج المنبثق عن الحوار الوطني، عند أسئلة بدهية أولى لا بد لها من أجوبة… ومنها على سبيل المثال:
هل كانت لنا نقط ضعف؟
حسب العثماني: لا يبدو ذلك.
هل كانت لنا هشاشات واضحة؟
أبدا، لم نسمع كلمة هشاشة في كل خطب رئيس الحكومة، اللهم إلا عند الحديث عن تقارير الهشاشة المجتمعية المعروف منذ عقود.
هل اكتشفنا ارتهاناتنا وارتباطنا، قل تبعيتنا في الكثير من القطاعات لدول أخرى وسياسات أخرى؟
سؤال معلق إلى ما شاء الله، سواء بخصوص التصنيع الوطني واللجوء إلى المواد الأجنبية -الصينية منها، أكان ذلك فرديا خاصا أو عموميا من قطاعات الدولة نفسها…
ولا أحد تكلم عن السياحة كقطاع تبعي، ولا عن التصنيع كقطاع مرتبط بالآخرين، ولا عن الهجرة وتحويلاتها كمؤشر مزاجه العام خارجي...
هل سيطمح في الحفاظ على مناصب الشغل الموجودة من قبل أم يغامر بإعلان الرفع منها في ورقته، بدون الزيادة في الضرائب؟
كل هذه الأسئلة وغيرها لم يطرحها الرئيس، وربما قد تتضمنها كل المساهمات، وبالتالي أمام رئيس الحكومة، اليوم، أزيد من عشرين محاولة لرسم طريق جديد أمام المغرب، وعليه أن يكشف لنا، من باب إعطاء مصداقية لعملية جمع هذه المساهمات عن:
ما هي الأولويات ؟
كيف سيحقق متطلبات المرحلة، كما تتقاطع فيها أغلب المواقف ومنها : التضامن،الثقة السيادة، والاندماج واستعادة القوة مجددا في النسيج السوسيو-اقتصادي؟
عليه أن يكشف للرأي العام، كيف سيتصرف أمام ما يملكه من مسودات مشاريع، هو الذي لم يعين بعد شعارات المرحلة الكبرى، وكيفية وضعها على الطريق.
ماذا لو أن مقترحات المعارضة كانت نفاذة، والحال أن بعضها أعلن نهاية «التكتل الوطني» حول الحكومة في وجه السيد الرئيس؟
والسؤال هنا: هل سيقبل بأن تدرج المعارضة -عمليا – في صيغة تدبير المقترحات أم سيدخلها من منطق القانون والقبول ببعض مقترحاتها، كما يحدث مع القوانين؟
هل سيكون تدبيرا سياسيا أم تشريعيا برلمانيا؟
مجرد سؤال أو محاولة ترسيم حدود التشريعي من السياسي في ما بعد الحوار الوطني…
كيف سيتجاوز بهذا الحوار عتبة التجميع التقني إلى إعطائه مدلولا سياسيا له معنى ويرسمل التكتل الوطني الموجود حاليا؟
هنا مربط الفرس، باعتباره رئيس حكومة سياسيا ومن حزب سياسي ويرسخ «المنهجية الديموقراطية» التي تكرر احتفاءه بها أكثر من مرة في الآونة الأخيرة.
لن يجد تجسيدا مؤسساتيا لها يفوق ما أمامه وبين يديه كرئيس للحكومة تقدم له الوسائط النقابية والسياسية والمهنية والمدنية كلها مقترحاتها في خضم الملحمة الوطنية التي أعلنها في البرلمان كجواب حاسم ومفحم …
في فرنسا مثلا، كان رئيس الدولة هو الذي طلب الوفاق الوطني حول أرضيات طلبها من رؤساء الجمعية الوطنية، مجلس الشيوخ والمجلس الاقتصادي الاجتماعي والبيئي، ومن المنتظر أن يعلن عن مضامين هذا الوفاق الوطني في يوليوز القادم.
من الأسئلة التي تطرح نفسها هو ما إذا كان السقف الذي اختاره العثماني لهذا التمرين الكبير لا يتعدى قانون المالية التعديلي، والقوة التي يريد أن يعطيها له، في أفق السنين المتبقية من عمر الحكومة.
فلا يمكن اختزال وظيفته الحكومية في استعمال الزمن، الذي يتكلف به عادة المعيدون عند كل دخول أو خروج، إلى حين أن نسمع صفارة الحكم النهائية. عليه أن يجد الأجوبة الحاسمة، التي تتجاوز بهذا الحوار الوطني طابعه التقني والقطاعي الاختزالي:
+ ماهي الأداة المؤسساتية؟ التي يمكنه أن يطرحها لتجسيد الحوار الوطني، وتفعيله؟ وما هي آلية المصادقة عليها أو تزكيتها؟
لقد عشنا التجربة غير الموفقة في محاولة صياغة النموذج التنموي الجديد من أعلى هرم السلطة الحكومية، وكيف آلت الأمور إلى لجنة خاصة، اقتفت آثار اللجن التي خاضت حوارات وطنية ذات طبيعة استراتيجية وإن كانت حول نقط ذات صلة بجانب من جوانب الحياة الوطنية للأمة ( القضاء المرأة والجهوية والمصالحة)، وهي ذات سمات تاريخية، ومجتمعية ودولتية إدارية عميقة، وصل فيها التاريخ إلى مأزق بفعل تطور المجتمع أو تحول الدولة أو بانتصار المنطق الإصلاحي…
هذا الحوار هو ولا شك، كما يتضح من التعبير نفسه لرئيس الحكومة، أقل طموحا من عمل لجنة بنموسى… لكنه لا يمكن أن يحلق منخفضا الاجنحة ، وقريبا من التعامل التقني، إنه في العمق سلوك لا يعلن عن نفسه ولا يبتعد كثيرا عن حاجة إلى شكل وطني سياسي لتدبير المرحلة، يكفي فقط الرغبة في بعد.. النظر.
فالبداهات أحيانا … تضبب الرؤية!
y’a des évidences qui aveuglent
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
تعليقات الزوار ( 0 )