عبد الحميد جماهري

لن يختلف المؤرخون، إلى حدود العقدين الحاليين، في أن الامتحان الكبير، وليس بالضرورة الشعب، كان هو الربيع العربي بنسخته المغربية.
كنا أمام موجة عارمة، فيها الأصيل النابع من التربة الوطنية، ومن أجندة أنضجته الشروط الذاتية، ومنها الدخيل الفاعل، بفعل عالم معولم ورهانات استراتيجية، كان الدم ضروريا لكي تظهر للعيان وتندرج في النقاش (سوريا ومصر واليمن مثلا) غير أن المغرب تفادها.
أولا، كان في تدبير الأمور، ما جعل البلاد استثناء حقيقيا، وذلك بعدم السقوط في استعصاء سياسي يكون الحل فيه عنيفا، بل ثبت أن الحل السياسي لإشكال عنيف، ممكن سلميا في مغرب حديث العهد بتحولات سلالية وسياسية..
ثانيا، اتضح أن سقف الإصلاحات لا يخيف الناس، كما لا يحمس معارضيه الأشد تمردا أكثر من اللازم، باعتبار أن السقف الذي صار الشارع مائدة التفاوض عليه، هو الملكية البرلمانية، واستمرار النظام وقدرته على قيادة هذا الأفق أكثر من غيره.
ثالثا، كان سقوط الأنظمة حولنا وتفكك المجتمعات وتلاشي النخب والتنظيمات مدعاة للتفكير السليم أكثر من تحريض النظام على استعمال مخاوفه الطبيعية – في هذه الحالة- في تطويق مطالب الشارع، وبلغة أخرى، كانت الدولة قد قررت، من داخل أكبر مكوناتها التاريخية والشرعية والدينية، أي الملكية، أن تعقلن هذا التاريخ المتدفق، بمطالب قديمة وأخرى جديدة، تهز العروش في دول أخرى أو تدخل البلدان في شوارع الدم ودهاليز الردة….
رابعا، قراءة وطنية لما حدث بالرغم من تعدد الأسباب ما بين الداخلي والخارجي، وهي حلقة قد تجد جذورها في تعامل سابق قامت به النخبة الوطنية والملكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أمام انهيار جدار برلين وبداية موجات الدمقرطة في شرق العالم، والحاجة إلى التحولات التي ظهرت وقتها، مما دفع نحو انفتاح سياسي داخلي، وانفراج في الملف الحقوقي والشروع في التفكير في الإصلاح الدستوري، بدايةَ تسعينيات القرن الماضي (انهيار الجدار وسقوط الأنظمة شرق استالينية 1990/1989) في حين كان أول تغيير دستوري في 1992 تلاه تغيير ثانٍ في 1996.
وقد تزامن ذلك، مع انطلاق المؤتمرات الوطنية في إفريقيا، ابتداءً من 1989 في بنين ثم تلته العديد منها.
وكان الملك الراحل، قد رفض الدخول تحت خيمة المؤتمرات التي كانت وراءها فرنسا في الكثير من الأحيان وقبل قراءة وطنية داخلية، تقرر ما حدث في شرق العالم بأبجدية وطنية.
ويبدو الاختلاف واضحا في درجة انخراط الدولة والملك الراحل وطبيعة هذا الانخراط، إذ ظل تدريجيا يحتكم إلى قانون الوقت ورهاناته أكثر مما يحتكم إلى ممكنات التطور وإرادة تطوير البعد السياسي في التغيير الكبير.
في العهد الجديد، ارتفع منسوب التغيير بشكل كبير للغاية، وكان منسوبه السيادي أكثر بالرغم من الظروف التي قلنا عليها، ذلك لأن العهد الجديد، كان قد رسمل ورصد العديد من الإصلاحات العميقة أقلها توصيات الهيئة الوطنية للإنصاف والاشتغال على الجهوية والعديد من الإصلاحات ذات الطابع المجتمعي والسياسي، الشيء الذي سمح له بأن يرفع من درجة التحديث والإصلاح.
سينصف التاريخ محمد السادس، لمّا سيكتب أن التعديلات، بالرغم من الطابع المرتبط مباشرة بـ 20 فبراير، كانت جاهزة وعلى أبواب الانوجاد منذ 2010….
خامسا، انتظام انتخابي بالرغم من كل التموجات (ضربات ماي كما تحركات الشارع)، والدفع بها نحو مزيد من السلاسة والتطبيع وتحديد القواعد الدستورية للسياسة ( المنهجية الديمقراطية- المحاسبة -) وتطعيم الاستقرار بعناصر جديدة من الإصلاحات… وهنا أصبحنا نتحدث عن الدولة كما هي متعارف عليها دوليا، وليس بصفتها مزاجا للحكم – ما نسميه عادة المخزن- وندرك بأنه أحيانا يكون استعمال مصطلح المخزن تعبيرا عن الفقر المفاهيمي، بل يخفي فقر التفكير في تعقد مسار تشكل الدولة وتطورات قرار الدولة، كما لو أن لحظة التأسيس مازالت قائمة منذ القرن الأول.
ومن المحقق أن التحليل المبني على مقولة المخزن، والتحليل المبني على مقولة الدولة، لا يحملان نفس المعنى، ولا يسمحان بنفس التأويل للواقع والحقائق الواقعية…
وهذا جانب ما كان ليكون لو لم يكن هناك تبني لمفهوم الدولة في الواقع عوض التبني اللاتاريخي للمخزن، كمفهوم في التحليل.
يمكن أن يسجل في المستقبل أنه كان أمام المؤرخين وعلماء الاجتماع تحول في مفهوم الدولة والتاريخ.…
سادسا، لم تكن الفضاءات العمومية قد ظلت حكرا على الدولة والعنف المشروع، منذ بداية العهد الجديد ومجيء حكومة التناوب، لأن الربيع المغربي، كان قد صدر عن عبد الرحمان اليوسفي وهو يتكلم عن ماي68 دائم في المغرب، بحيث إن التظاهرات وحركة التظاهر، قد صارت مقبولة كشكل من أشكال التفاوض مع السلطات وأصحاب القرار..علما أنها في الغالب بدون مضمون سياسي يعتبر.
الشيء الذي تغير مع 20 فبراير بتسييس خطاب الاحتجاج «توسيع الطابع التوتري» إلى الدائرة السياسية بشكل عميق… كالتغييرات التي حدثت لأن المعادلة السياسية الجديدة، كانت تعي بأن للملك الجديد مكانته في المعطى الدستوري الجديد.. كما يستفاد من التصويت بأغلبية ساحقة على مسودة الدستور كما عرضه الملك، وكما صاغه الحوار الوطني الشامل، أي أغلبية ساحقة من المغاربة ترى في الملك، المحرك الأساسي للمعطى الدستوري الجديد أو بلغة جميلة وتعبير دقيق يكاد يكون شاعريا لخليل الهاشمي الإدريسي، «إعادة الملك إلى الوطن» rendre le roi la nation، وليس النظام، كما قد نزيد من عندياتنا!

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..

المجد للشهداء في الأعالي، وعلى الوطن السلام!