نال مشروع محمد عابد الجابري حول قراءة التراث، وحول «نقد العقل العربي»، من منطلق إبستمولوجي، حظا وافرا من السجال الفكري، الذي جر إلى معمعانه قامات فكرية أمثال جورج طرابيشي وطه عبد الرحمن وحسن حنفي ومحمد أركون ومحمود أمين العالم.. وغيرهم.
وقد ساهم الجابري في إشعال الحركة الفكرية العربية والإسلامية، والدفع بها إلى إعادة قراءة التراث العربي، ومحاولة إخراج العقل العربي من «استقالته»، وذلك انطلاقا من تحصيل آلة إنتاج النهضة، أي «العقل الناهض».
وقد انبرى العديد من المفكرين لمناقشة نظرية الجابري، وشهدت الساحة الفكرية العربية سجالات حامية الوطيس، بلغت أحيانا حد التجريح والتخوين والتغليط والتزوير والنزعة العرقية. غير أن الجابري يبقى في المحصلة حتى بالنسبة لألد خصومه أحد أهم قارئي التراث والمتبحرين في درره وامتداداته. وهذا يدل على مدى فرادة مشروعه وأهميته، إذ ما زال إلى حدود الآن، يُسيل حبرا كثيرا ما بين مؤيد ومعارض، وما زال يستيقظ في الدرس الجامعي بالمساءلة والنقاش ومحاولة الاكتشاف..
في ما يلي مقالات بأقلام أساتذة وباحثين حول المشروع الفكري للجابري نقترحها عليكم خلال هذه الفسحة الرمضانية..

إنه تحليل لا يهتم بالأثر والمؤلف والكتاب والأفكار المحورية، كما لايركن الى التأويل، تأويل الخطاب بحثا عن دلالته الخفية العميقة، بل يكتفي بالوقوف عند العبارة نفسها كأثر قائم الذات، ذي مادية تجعله نصبا تذكاريا يتطلب التأمل والتفرس فيه·
إذا كان تاريخ الأفكار يهتم بالبدايات والنهايات للتاريخ، ويتتبع انطلاقا من ذلك تواصل الافكار واتصالها وهجرتها والتأثير والتأثر، فإن الحفريات تهتم بالفترات واللحظات المعرفية من خلال إبراز ما يسمح لكل فترة أو لحظة أن تتفرد وتنفرد بطابعها المعرفي المميز، قاطعة كل اتصال بما يسبقها أو يعقبها من فترات ولحظات·
على كل حال، يقتضي منا المقام هنا، التأكيد على أن الانقطاع في تاريخ العلم ليس هو ذاته في تاريخ الأفكار· إنه في تاريخ العلم دليل على ان الافكار العلمية قد أقبلت على انتقال نوعي وتحول كيفي يتعرض فيه ماضيها الى الترك الكلي أو الى تضييق مجال صلاحيته، بمعنى أن يصبح مجرد حالة خاصة من حالات أعمق وأشمل· أما في تاريخ الافكار، فلا يكون بالضرورة دليل تقدم أو انتقال نوعي، بل دليل مجرد تحول يصيب حقل المعرفة، مما يمنع إطلاق أحكام قيمة بخصوص السابق واللاحق·
بل حتى في مستوى تاريخ الأفكار العلمية، أصبحت المدارس الإبستمولوجية المعاصرة تميل الى اعتبار التقدم في العلم ليس دليل تحول كيفي أو انتقال نوعي نحو الأفضل· فعلى سبيل المثال، يذهب مؤرخ العلم الامريكي توماس كون في كتابه: بنية الانقلابات العلمية 13) الى ضرورة إقصاء المفهوم الغائي للتقدم العلمي والمعرفي الذي يجعل هذين الأخيرين يتجهان نحو تحقيق غاية ما· ويقترح، بالمقابل، اعتماد منظور تطوري دارويني في تفسير تقدم العلم كما لو لم يكن تقدما يقربنا من مقصد ما، أي تقدما لا يحكمه منطق الغائية والتراكم التطوري، فأي منظور يرى أن الانتقاء الطبيعي بوصفه يتم داخل محيط بيئي بعينه ويفعل فعله في كائنات توجد فعلا في ذلك المحيط، هو المسؤول عن ظهور أجهزة عضوية بصورة تدريجية منتظمة وأكثر تعقدا وتباينا وتنوعا·
ويعني هذا أن محرك التطور هو الانتقاء الطبيعي المترتب عن الصراع من أجل البقاء، مما يجعل البقاء من نصيب الأصلح، وبالتالي فثمة تشابه بين تطور الكائنات الحية وتطور الافكار العلمية· فصراع المظلات النظرية العلمية يجعل إحداها تنتصر، فيحدث الانتقال من رحلة الى أخرى، أي يحدث انقلاب في العلم، كما تحدث قطيعة بين الحاضر والماضي دون أن يعني ذلك بالضرورة أن الحاضر العلمي أفضل من الماضي·
إن كان العلماء الممارسون، أنفسهم، ينازعون في كون القطيعة داخل العلم تتمخض عما هو أفضل، فما بال من يريد فرض ذلك في حقل تاريخه بارد ألا وهو حقل التراث؟
هوامش:
(*) هذه الدراسة من كتاب «التراث والنهضة» الصادر ببيروت مؤخرا عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت والمهدى للاستاذ محمد عابد الجابري بمناسبة مرور عشرين سنة على بداية صدور مشروعه في نقد العقل العربي·
1) محمد عابد الجابري، مدخل الى فلسفة العلوم: دراسات ونصوص في الإبستيمولوجيا المعاصرة، 2ج(الدار البيضاء: دار النشر المغربية، 1986)·
(2) محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي (بيروت: دار الطليعة، 1980)·
(3) Louis althusser, Pour Marx (Pris: F. Maspero, 1965)
(4) Karl…. : Manuscrits de 1844 (Paris .. Sociales, 1973), et L›Idéologie allemande (Paris:ed. dociaies,1972)
(5) محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقل العقل العربي، (بيروت: دار الطليعة، 1984)·
(6) المصدر نفسه، ص17·
(7) المصدر نفسه، ص 18/17·
(8) المصدر نفسه، ص18·
(9) المصدر نفسه، ص18·
(10)J. Needham, La Science chinoise et l›occident (Paris: {s.l} 1969)
(11) محمد عابد الجابري، مدخل الى فلسفة العلوم: دراسات ونصوص في الإبستيمولوجيا المعاصرة، 2ج (الدار البيضاء: دار النشر المغربي، 1976)، ج1: تطور الفكر الرياضي والعقلانية: ص62·
(12) جورج لايكوف ومارك هنسن، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد المجيد جحفة، ترجمة عبد المجيد جحفة (الدار البيضاء: [د·ن]، 1996)·
(13) Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, International Encyclopedia of.
Unified Science, Foundations of the Unity of Science, v. 2, no.2, 2nd et. enl. (Chicago, Il: University of Chicago Press, 1970).
(يتبع)

الكاتب : سالم يفوت (*)

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الكاتب الأول يحضر اللقاء التواصلي الأول لنقيب المحامين بالرباط

تقديم طلبات التسجيل الجديدة في اللوائح الانتخابية إلى غاية 31 دجنبر 2023

الأخ عبد الحميد جماهري يشارك في الندوة الوطنية المنظمة من طرف حزب التقدم و الاشتراكية

الكاتب الاول ينعي وفاة الاخ عبد اللطيف جبرو