بقلم فدوى الرجواني

لحظة مكاشفة عميقة تلك التي عرفها المؤتمر من خلال الكلمة الافتتاحية التي ألقاها الكاتب الأول للحزب، خطاب محمل برسائل فكرية وسياسية وتنظيمية تعيد وصل الحزب بجذوره الاشتراكية الديمقراطية وبمسؤوليته الوطنية في زمن التباس المعاني وتراجع الثقة في السياسة.
منذ الأسطر الأولى، رسم الكاتب الأول معالم خطاب مختلف، يقوم على الوضوح والمصارحة، وعلى التحليل العميق للتحولات الوطنية والدولية، فالكلمة جاءت بمثابة تشخيص جماعي لمرحلة سياسية دقيقة يعيشها المغرب والعالم، حيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مع صعود الشعبويات وتراجع الأفق الديمقراطي، ما يجعل اليسار المغربي أمام مسؤولية استعادة المبادرة الفكرية والسياسية.
في عمق الخطاب، وجه لشكر نقدا صريحا للواقع السياسي الراهن، خاصة لما وصفه بانكماش الفعل الحزبي وتراجع الأدوار الوسيطة، معتبرا أن “السياسة لا يمكن أن تتحول إلى مجرد تدبير تقني للسلطة”، بل هي فعل فكري ومجتمعي يهدف إلى بناء الثقة والمشروعية،
إنها دعوة لاستعادة روح السياسة كقيمة أخلاقية ومشروع مجتمعي، في وجه منطق اللامبالاة أو الزبونية أو الانغلاق، وهو نقد يطال مجمل الحقل السياسي المغربي، بما فيه المؤسسات والأحزاب والنخب.
كما حمل الخطاب رسالة واضحة للدولة والمجتمع معا، الديمقراطية لا تبنى فقط بالقوانين والدساتير، بل بثقافة المشاركة والإصغاء المتبادل، وبالاعتراف بدور الأحزاب كمدارس للمواطنة لا كأدوات انتخابية عابرة. بهذا المعنى، استعاد إدريس لشكر جوهر المشروع الاتحادي الذي نشأ في قلب معركة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
من المحاور القوية في الخطاب، تأكيد الكاتب الأول على أولوية الدولة الاجتماعية كمشروع وطني يربط العدالة بالتنمية، مبرزا أن الإصلاحات الكبرى، من تعميم الحماية الاجتماعية إلى إصلاح التعليم والصحة، لا يمكن أن تنجح دون رؤية متكاملة تعطي للمواطن موقع الكرامة والعمل والحق في الخدمات.
وفي هذا الصدد، وجه لشكر انتقادا ضمنيا للنزعات النيوليبرالية التي تفرغ الإصلاح من مضمونه الاجتماعي، مؤكدا أن الاتحاد الاشتراكي كان وسيظل الضمير الاجتماعي للدولة المغربية، الحارس على توازنها بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
لم يكتف لشكر بالحديث إلى الداخل، بل وسع أفق الخطاب إلى الرهانات الدولية، مؤكدا أن المغرب ليس جزيرة معزولة عن ما يجري في العالم، وتحدث في هذا السياق عن تحولات الجنوب العالمي، وعن أزمة النظام الدولي، وعن الحاجة إلى يسار ديمقراطي عالمي يعيد التوازن بين القيم والمصالح، في خطاب محمل بوعي أممي، يعيد وصل الاتحاد الاشتراكي بإرثه الأممي داخل الحركة الاشتراكية الدولية، ويذكر بأن الدفاع عن الحرية والعدالة لا يتجزأ بين الداخل والخارج.
أما على المستوى التنظيمي، فقد تميزت الكلمة بـ نقد ذاتي نادر في الخطابات الحزبية المغربية، حيث دعا لشكر المناضلين إلى ممارسة النقد البناء، إلى تجاوز الخلافات الصغرى، وإلى تجديد النخب الفكرية والسياسية دون قطع مع التاريخ، في دعوة للمصالحة بين الأجيال الثلاثة: جيل التأسيس الذي صنع الذاكرة، وجيل التحول الديمقراطي الذي راكم التجربة، وجيل الشباب الذي يطلب المعنى والجرأة.
بهذا، وضع لشكر المؤتمر أمام مسؤوليته التاريخية: أن يكون محطة تجديد للعقل الاتحادي، وليس لحظة انتخابية فقط.
في خلفية الخطاب، يتردد صدى شعار المؤتمر “من أجل صعود جديد”، الذي لا يفهم كصعود انتخابي فقط، بل كـنهوض جماعي لمشروع اشتراكي ديمقراطي متجدد.
الصعود هنا يعني استعادة الإيمان بإمكانية التغيير، في حزبٍ عرف كيف يقاوم ويؤسس ويجدد نفسه جيلا بعد جيل، وهو ما يجعل كلمة إدريس لشكر بمثابة وصية سياسية أكثر منها خطاب افتتاح، لأنها تضع الاتحاد أمام سؤال المستقبل: كيف نحول الرصيد النضالي والفكري إلى طاقة اقتراحية قادرة على إعادة الثقة في السياسة، وفي اليسار، وفي الوطن.
خطاب إدريس لشكر في المؤتمر الثاني عشر كان لحظة تأمل في الماضي، ولكن أيضا إعلانا عن بداية دورة فكرية جديدة في مسار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
فيه نقد للواقع، دفاع عن الدولة الاجتماعية، استحضار للبعد الكوني، ودعوة للمصالحة التنظيمية والفكرية.
خطاب يليق بلحظة مفصلية، حيث يحتاج المغرب إلى يسار مسؤول، جريء، ومتبصر، يجدد حلم العدالة والديمقراطية في زمن التحديات الكبرى.
ختاما، ولنكون صادقين مع أنفسنا أولا وردا على كل الذين اختزلوا المؤتمر في إعادة انتخاب الأخ إدريس لشكر كاتبا أول، أفي سنة انتخابية نطالب بتغيير القيادة وتجريب شخص جديد؟ إننا لا نبدل فريقا يحقق النجاح، ثم إن اختزال النقاش في مسألة نعتبرها تقنية، فيه ظلم لتاريخ حزب يقوم على القيادة الجماعية، حيث لا يصدر القرار إلا بعد أن يمر من «عين الإبرة»، أي بعد نقاش ديمقراطي عميق ومسؤول، المؤسف حقا أن يغفل البعض، عمدا أو سهوا، جوهر ما ميز هذا المؤتمر: الكلمة الافتتاحية التي امتدت ساعة ونصفا، وكانت، في تقديري، من أجود ما أنتجه الحزب فكرا وتحليلا واستشرافا، الحضور الوازن للضيوف الأجانب، وغنى الندوات والنقاشات التي عكست نضج الاتحاد واتساع أفقه، ثم ذاك الانضباط الرائع الذي أبداه المناضلون من مختلف الأجيال، منذ انطلاق الأشغال إلى اختتامها، بما يؤكد عمق الانتماء والإيمان الجماعي بمستقبل الحزب. مؤسف أن تمر كل هذه المعاني مرور الكرام، ليختزل الحدث في نقطة واحدة هي إعادة انتخاب الكاتب الأول. وفي هذا السياق، يكفي أن نستحضر سيرة من تعاقبوا على قيادة الحزب، وعلى رأسهم عبد الرحيم بوعبيد، لنفهم أن الاستمرارية لم تكن يوما ضعفا أو شحا في البدائل، بل كانت ضمانة للاستقرار والنضج، وأن كل محاولة للتغيير القسري كانت تدفع الحزب لتأدية ثمن غالي من وحدته وتوازنه.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الاتحاد  الاشتراكي… حين يتحول النجاح إلى مصدر إزعاج

في الجلسة العامة للمؤتمر: المصادقة بالإجماع على التقرير الأدبي والتقرير المالي وتقرير لجنة المراقبة المالية والإدارة والممتلكات

أي اتحاد نريد…. وأي اتحاد يريدون؟

رسالة شكر وامتنان‮ .. ‬إلى كل من شاركنا‮ ‬فرحتنا الوطنية الكبرى في‮ ‬المؤتمر‮ ‬12