رسالة الاتحاد
تستيقظ مدينة فاس على صباح ثقيل، لا تحمله نسائم دجنبر الباردة وحدها، بل يحمله صمت الأنقاض وأنين الفقد. اثنان وعشرون جسداً انتُشلوا من تحت الركام، بينهم أطفال كانوا قبل ساعات يحتفلون بعقيقة مولود جديد، في مفارقة قاسية تختصر عبثية المشهد: احتفال بالحياة يتحول إلى موكب جنائزي جماعي. غير أن السؤال الذي يتردد في أذهان المغاربة اليوم لا يتعلق فقط بما حدث، بل بما كان يمكن أن يحول دون وقوعه.
لنفترض جدلاً أن موظفاً في قسم التعمير بالجماعة قرر، في يوم ما خلال العقدين الماضيين، أن يقوم بجولة تفتيشية روتينية في حي المسيرة ببنسودة. لنتخيل أنه وقف أمام تلك العمارة المرخص لها بطابقين، فوجدها قد تحولت إلى أربعة طوابق، ثم حرر محضر مخالفة وأحاله إلى الجهات المختصة. هل كان الركام سيبتلع اثنين وعشرين روحاً؟ هل كانت تلك الطفلة ستُخرج من تحت الأنقاض جثة هامدة بدل أن تكون نائمة في سريرها الدافئ؟ الإجابة تبدو بديهية، لكن بداهتها هي بالضبط ما يجعل المأساة أكثر فداحة، إذ إننا لا نتحدث عن كارثة طبيعية خارجة عن السيطرة، بل عن سلسلة من الاختلالات المتراكمة التي كان يمكن الوقوف عليها وقطع الطريق أمام تداعياتها .
ولو عدنا إلى ماي الماضي، حين انهارت عمارة الحي الحسني بالمرينيين وخلفت عشرة قتلى، لوجدنا أنفسنا أمام فرصة تاريخية ضائعة. في تلك اللحظة بالذات، كان بإمكان المؤسسات ذات الصلة أن تطلق حملة تفتيش شاملة لجميع البنايات المشكوك في سلامتها، وأن تُفعّل آليات القانون 100.12 المتعلق بالبنايات الآيلة للسقوط، وأن تُشكّل اللجان التقنية المنصوص عليها قانوناً، وأن تُعد قاعدة بيانات دقيقة بجميع المباني الخطرة. لو حدث ذلك، لكانت العمارتان المنهارتان في بنسودة قد خضعتا للفحص التقني، ولاكتُشفت الهشاشة البنيوية الناجمة عن إضافة طابقين غير مرخصين، ولأُخليت الأسر الثماني إلى مساكن بديلة. بيد أن شيئاً من هذا لم يحدث، واكتفت جهات معلومة بالتصريحات الإعلامية والوعود المعلقة، لتتكرر المأساة بحذافيرها بعد سبعة أشهر فقط.
ثمة في هذا السياق تصريح للوزيرة فاطمة الزهراء المنصوري عقب فاجعة المرينيين يستحق التوقف عنده ملياً. قالت الوزيرة حينها إن ثماني أسر قبلت قرار الإخلاء، بينما رفضته خمس أسر. هذا التصريح، الذي بدا للبعض تبريراً تقنياً، يطرح سؤالاً جوهرياً: لماذا رفضت تلك الأسر؟ ماذا لو كانت هناك ضمانات توفرت لهم سكناً بديلاً ، هل كانوا سيختارون البقاء تحت سقف يتهددهم بالموت؟ إن اختزال المشكلة في «رفض الأسر» يتجاهل البعد الاجتماعي والاقتصادي للأزمة، حيث إن كثيراً من هذه الأسر لا تملك ترف الانتقال إلى سكن آخر في غياب بدائل حقيقية ومعقولة التكلفة. وبالتالي، فإن السؤال الذي ينبغي طرحه ليس لماذا رفضوا المغادرة، بل لماذا وُضعوا أصلاً أمام هذا الخيار المستحيل: الموت المحتمل تحت الأنقاض أو التشرد المؤكد في الشوارع؟
ومن المفارقات اللافتة في هذه الفاجعة أن هواتف بعض مسؤولي بنسودة ظلت ترن دون جواب، بينما كانت فرق الإنقاذ تنتشل الجثث من الركام. لو افترضنا أن المنتخبين المحليين كانوا يقومون بدورهم الرقابي على مدار السنوات الماضية، لو كانوا يزورون الأحياء ويتابعون شكاوى الساكنة ويراقبون تطبيق قوانين التعمير، لربما اكتُشفت المخالفة قبل أن تتحول إلى قنبلة موقوتة. ناهيك عن أن غياب المنتخبين عن موقع الفاجعة ليس مجرد خلل بروتوكولي، بل هو تجسيد رمزي لغيابهم الأعمق عن ممارسة صلاحياتهم الدستورية في الرقابة والمتابعة والمحاسبة.
وفي إطار هذه المقاربة الافتراضية، تجدر الإشارة إلى أن المرصد المغربي لحماية المستهلك كان قد طالب مراراً بتفعيل آليات القانون 100.12، خاصة فيما يتعلق بإحداث اللجان التقنية وإصدار قرارات الإخلاء الفوري ووضع البطائق التقنية للبنايات الهشة. لو استُجيب لهذه المطالب، لكانت كل بناية في المغرب تملك بطاقة تقنية تحدد وضعيتها الإنشائية، ولكانت اللجان التقنية تعمل بشكل دوري على رصد علامات الخطر، ولكانت قرارات الإخلاء تُنفذ فوراً مع توفير البدائل. غير أن الفجوة بين النص القانوني والتطبيق الفعلي ظلت هوة سحيقة، ودفع المواطنون ثمنها من أرواحهم.
ولا يمكن إغفال البعد الزمني للمأساة، فالترخيص الأصلي للبناية صدر عام 2007، أي قبل ثمانية عشر عاماً، وكان يخص بناية من طابقين فقط. خلال هذه الفترة الطويلة، أُضيف طابقان كاملان دون أن تحرك أي جهة رقابية ساكناً. لو كانت هناك منظومة مراقبة فعالة تتضمن جولات ميدانية دورية ومقارنة بين رخص البناء والواقع المبني ومتابعة لشكاوى الجيران والساكنة، لما كان ممكناً لهذه المخالفة الصارخة أن تمر دون رصد طوال عقدين كاملين. إن السؤال هنا لا يتعلق فقط بمن بنى الطابقين الإضافيين، بل بمن سمح لهما بالبقاء قائمين كل هذه السنوات.
والأكثر إيلاماً في هذا كله أن فاس ليست وحدها، فالمدن المغربية تعج بآلاف البنايات المماثلة التي تنتظر دورها في الانهيار. ولو أن الحكومة أطلقت، عقب أي من الفواجع السابقة، مشروعاً وطنياً لحصر جميع البنايات الآيلة للسقوط وتصنيفها حسب درجة الخطورة ووضع جدول زمني لتأهيلها أو هدمها مع توفير بدائل للساكنة، لكنا اليوم نتحدث عن أرقام ومشاريع وإنجازات، لا عن جثث وأنقاض ودموع. بيد أن الواقع يقول إن كل فاجعة تُقابل بموجة من التصريحات والوعود، ثم يعود كل شيء إلى سابق عهده حتى تقع الفاجعة التالية.
إن ما حدث في فاس ليلة الثلاثاء-الأربعاء لم يكن قضاءً وقدراً محضاً، بل كان نتيجة منطقية لتراكم الإخلالات والتقصير وغياب المحاسبة. كل طابق غير مرخص أُضيف دون رقابة، وكل تقرير تقني أُهمل، وكل شكوى مواطن لم تُسمع، وكل قرار إخلاء لم يُرفق ببديل سكني، وكل منتخب غاب عن دوره الرقابي، كل هذه الحلقات مجتمعة نسجت الحبل الذي أودى بحياة اثنين وعشرين إنساناً. وإذا كان ثمة درس واحد ينبغي استخلاصه من هذه المأساة، فهو أن المسؤوليات المؤجلة لا تختفي، بل تتحول مع الزمن إلى أكفان، وأن المحاسبة الغائبة اليوم ستُدفع كلفتها غداً من دماء الأبرياء ، والخلاصة مفادها « ماذا لو…؟ حين تتحول الأسئلة المؤجلة إلى أكفان».


تعليقات الزوار ( 0 )