من منارات الدستور الحالي، هناك الفصل 19 الذي يفتتح الباب الثاني المعنون ب»الحقوق والحريات الأساسية». فصل بحمولة حقوقية مجتمعية بامتياز يبرز مضمونه في فقرته الأولى:
«يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها».
ويحدد أفقه في الثانية :
«تسعى الدولة إلى تحقيق مبدإ المناصفة بين الرجال والنساء».
ويبدع آلية لإعماله في الفقرة الثالثة. «تُحدث لهذه الغاية، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز».
انتظر المغرب ست سنوات وستة أسابيع كي تخرج إلى الوجود تشريعا هذه الآلية بمقتضى قانون صادق عليه مجلس النواب في قراءة ثانية أول أمس . نص مر بمسارات متعددة، وحظي بمناقشات واسعة، خاصة على مستوى الفاعلين بالمجتمع المدني تنظيمات وخبراء، وقدمت بشأنه مرافعات من طرف مؤسسات وطنية لحقوق الانسان… لأن الهيئة ذات دور محوري في تحقيق المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.
لقد وضعت الحكومة السابقة مشروعا هشا، اعترته اختلالات عدة، ولم يرق إلى مستوى روح الدستور. لكن المؤسسة التشريعية في سنتها الحالية، أعادت صياغته، ووسعت من اختصاصات الهيئة وولايتها.
هكذا يخول القانون المصادق على هذه الآلية تقديم مقترحات أو توصيات، بهدف تعزيز قيم المساواة والمناصفة، وتكريسها وإشعاعها، والاضطلاع بدور مؤسسي كقوة اقتراحية من أجل النهوض بمبادئ المساواة والمناصفة وعدم التمييز.
وتتمثل مهام هذه الهيئة أساسا في «إبداء الرأي، بمبادرة منها أو بطلب من الملك، أو بطلب من الحكومة، أو أحد مجلسي البرلمان، حسب الحالة، بشأن مشاريع ومقترحات القوانين ومشاريع النصوص التنظيمية»، وكذا «تقديم كل اقتراح أو توصية إلى الحكومة أو إلى أحد مجلسي البرلمان،بهدف تعزيز قيم المساواة والمناصفة وعدم التمييز وتكريسها وإشاعتها».
وتعمل أيضا على التشجيع على إعمال مبادئ المساواة والمناصفة وعدم التمييز في مختلف مناحي الحياة العامة، والعمل على رصد كل إخلال بها، واقتراح جميع التدابير التي تراها مناسبة للسهر على احترامها.
وستسهر الهيئة أيضا على المساهمة في إدماج وترسيخ ثقافة المساواة والمناصفة وعدم التمييز في برامج التربية والتكوين والتعليم، فضلا عن رصد وتتبع أشكال التمييز التي تعترض النساء، وإصدار كل توصية تراها مناسبة، واقتراح كل تدبير ناجع من أجل تصحيح الأوضاع الناتجة عن كل سلوك أو ممارسة أو عرف، يتسم بطابع تمييزي أو يتضمن إخلالا بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة.
وإذ نعيد تلخيص مضامين هذا القانون، فلإبراز أهمية هيئة المناصفة مؤكدين على نقطتين اثنتين:
الأولى، ضرورة جعل عمل الهيئة منسجما مع روح النسق الدستوري، خاصة الفصل التاسع عشر، الذي ينص بشكل واضح وجلي، على أن الهدف من إحداثها ، تحقيقُ مبدأ المناصفة والمساواة بين الرجال والنساء.
الثانية، أن هناك مسؤولية رئيسية للنسيج الحقوقي، خاصة المنظمات المناضلة، من أجل حقوق النساء في الاشتغال بيقظة، تجاه عمل هذه الهيئة، ورصد ممارستها ووضع الأصبع على أي اختلال في مهامها.
إن معركة المناصفة والمساواة، معركة طويلة الأمد، وتقتضي نفسا نضاليا قويا، لمواجهة قوى عديدة، ظاهرة وباطنة، تعمل لتكريس وضع ذكوري، يجعل من المرأة مجرد «أثاث» لتزيين الحياة العامة والخاصة للرجل.وهو وضع يسلب النساء حقوقهن، ويمارس عليهن الاستغلال بشتى أشكاله . لذلك، فإن مسؤولية المجتمع المدني في مواجهة هذه الأوضاع، مسؤولية جسيمة، وما الهيئة المحدثة سوى جبهة من عدة جبهات في المعركة، من أجل بناء مجتمع، يتمتع فيه الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية…