ثمة موضوع في غاية التعقيد، عنوانه «النموذج التنموي»، الذي لا يشغل بال الرأي العام المغربي، فقط، بل الرأي العام في مختلف البلدان، ليس في التساؤل عن جدوى النماذج التي سادت لحد الآن، على ضوء التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، بفعل الثورة التكنولوجية التي غيرت معالم العلاقات وأساليب التواصل والتأثير الجماهيري وصناعة الرأي العام والأذواق وأشكال الاستهلاك، بل أيضاً بسبب الدور الهائل الذي تلعبه عولمة الاقتصاد في توجيه نماذج كل الدول نحو نمط موحد.
هل يمكن تصور نموذج اقتصادي، بمعزل عن إكراهات العولمة، التي أصبحت حتمية تقريبا، لأن هناك سوقا عالمية مفروضة على الجميع، ومؤسسات مالية دولية صارمة في شروطها، وأبناكا وشركات واستثمارات وغيرها من البنيات الاقتصادية والمالية، التي فرضت تداخلا وتبعية متبادلة، على كل البلدان، يسودها النموذج الليبرالي بكل ميكانيزماته المعروفة.
في إطار هذه الحتميات، هل هناك هامش للاجتهاد؟ هذا هو ما تناقشه الندوة المنظمة من طرف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حول النموذج التنموي الجديد، تحت شعار «دولة قوية عادلة ومجتمع متضامن»، في محاولة لتشخيص الوضع الحالي في المغرب، واقتراح مشروع تنموي ومجتمعي جديد، ينطلق من المرجعيات الفكرية والتوجهات السياسية لهذا التنظيم.
ومن المؤكد أن المهمة لن تكون سهلة، ليس لأن هناك إكراهات مفروضة على كل البلدان، بسبب سيادة الليبرالية واقتصاد السوق، بل أيضاً لأن تصور نموذج تنموي جديد، يتطلب اجتهاداً فكرياً وشجاعة سياسية لإعادة النظر الجذرية في المنظومة المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، السائدة، التي استنفدت صلاحيتها، ووصلت إلى مداها، يتجلى ذلك في الأزمات المتكررة وأشكال الخصاص الظاهر للعيان، في العديد من الواجهات.
من السهولة القول إن الوضع يتطلب ثورة شاملة، لكن الواقعية تفترض الاجتهاد داخل الإكراهات والحتميات، لاقتراح التغييرات الضرورية لتجاوز الأزمات الحالية والقادمة، ببدائل ممكنة، لكنها مؤلمة لأنها تتطلب التضحية بامتيازات ومنافع وتوزيعا عادلا للثروة وتقليص الهوة الاجتماعية والسعي نحو المساواة وتعزيز الحكامة والقضاء التدريجي على شبكات الزبونية والمحسوبية ومراجعة «الثوابت» الثقافية والتربوية، أي إحداث ثورة هادئة في البنيات السائدة.