لم تجد الدعوة إلى الانفصال أرضا خصبة كما عرفها العالم العربي في تاريخه الحديث ، ليس لأن هناك مقومات استقلال جزء ترابي عن بقية مجال جغرافي ، أو أن هناك شروطا موضوعية تاريخية ثقافية جغرافية تقف بالفعل وراء هذه الدعوة . بل لأنها كانت سواء هناك بالمشرق أو هنا بالمغرب الكبير تغذيها قوى خارجية بالأساس، وتجد لها مبررات ومسوغات بهدف تفتيت بلدان، وتمزيق أنسجة اجتماعية، وترمي من خلال ذلك إلى تحقيق أهداف وغايات من بوابة إضعاف هذه البلدان ضحية الدعوة للانفصال.
والمثير كذلك أنه لم تفشل تجارب الوحدة إلا في هذا العالم الممتد بين قارتين، بالرغم من أن الدعوة لها كانت لها مرجعيات، تتمثل أساسا في المطالب القومية التي رأت أن هناك عوامل مشتركة تبرر ذلك، من بينها اللغة والدين والثقافة والتاريخ والعلاقات الاجتماعية .لكن هذه الوحدة، استبدت بالدعوة إليها أنظمة سياسية، جعلتها قرارا فوقيا، يخدم مصالحها أكثر من تجسيد واقعها . كان مطلب الوحدة يخيف القوى الخارجية الداعية للانفصال، لأنها ترى فيه قوة، تهدد مخططاتها، وتقلص تغلغلها في دواليب الاقتصاد والإدارة وحتى النخب.
وما يعرفه شمال العراق الآن، لايخرج عن منطق الانفصال. صحيح أن هناك أغلبية كردية ومعها مكونات تنحدر من ثقافات وأديان وعصبيات عدة، عانت تاريخيا من ظلم أنظمة وجور سياسات ، لكن الاستفتاء الذي جرى منتصف هذا الاسبوع بالإقليم، ماهو -في حقيقته- إلا حلقة من حلقات تفتيت بلاد الرافدين، بعد أن حولها التدخل الامريكي طيلة عقدين إلى حقل مواجهات طائفية، وساحات اقتتال دينية، وأضعف مناعة أنسجتها الاجتماعية …والخطير أن الموقع الاستراتيجي لشمال العراق له تأثيرات في محيطه المباشر، والذي هو تركيا وإيران وسوريا. ومشروع الانفصال هذا يشكل فصلا جديدا من مخطط إنهاك الدول، وخلق بؤر تؤثر على أبوابها، أو بداخل ترابها، في منطقة تزخر بالنفط والغاز، عصب اقتصاد الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الكيان الوحيد المتحمس علانية لانفصال كردستان عن العراق ( هناك عواصم قوى عظمى تتمنى في صمت أن يحدث ذلك) هو إسرائيل التي انخرطت منذ غرزها بقلب الوطن العربي في كل عمل يضعف محيطها الجغرافي، ويثقله بمشاكل وصراعات . وقد نجحت في ذلك، إن نحن استعرضنا الخريطة اليوم، حيث تحول العراق وسوريا إلى دمار وساحات خراب، وأخرجت مصر ذات الثقل السكاني والاقتصادي والاستراتيجي من الصراع، الذي يهدف إلى استرجاع فلسطين وعاصمتها القدس . ومن بين أبرز أسباب نجاح هذا المخطط، وجودُ أنظمة عربية لاديمقراطية، أطلقت العنان لمخابراتها وأجهزتها البوليسية، كي تعيث في المجتمعات فسادا وقمعا وتنكيلا وظلما وهيمنة …
لذلك، نعتبر أن خيار الانفصال في شمال العراق أو في هذا البلد العربي أو ذاك ، وصفةً خارجية، تستغل أوضاعا داخلية ،وتعزف على وتر تقرير المصير . الانفصال خيار خاطئ يخدم أجندات لها مصالح استراتيجية واقتصادية، ولها خرائط لصياغة عالم عربي جديد، بملوك طوائف وإمارات مشايخ … نعم لقد عانت أقاليم بعالمنا العربي من ظلم فادح من السلطات المركزية، لكن الانفصال سيكون لامحالة ليس تعبيرا عن انعتاق من هذا الظلم بل تكريسا له بصيغ أخرى .
إن خيار الديمقراطية بمشاركة كل المكونات، سواء على المستوى المركزي أو المحلي، وإرساء عدالة مجالية واجتماعية وثقافية، سواء عبر ترسيخ الجهوية، أو تبني الحكم الذاتي، هو الطريق الصحيح، الذي يأخذ بعين الاعتبار الحقيقة التاريخية ، وإلا فإن ورقة الانفصال، ستحول العالم العربي إلى دويلات متنافرة متطاحنة …