ما يحدث بـ«العرجة» بفجيج، يعيد إلى الأذهان، ما عاشه المغاربة، كمواطنين، وليس كدولة فقط، عند الطرد الشامل لعشرات الآلاف من المغاربة الذين »تجزأروا«/ الجزائر عن حب وعن قناعة وعن عفوية تاريخية في التراب الشرقي لخارطة الأُخوة…، لهذا يحضر، في التفاعل المدني والمجتمعي اليوم، الشعور الأليم لتلك الفترة، وقد يقود إلى نوع من الإسقاط العاطفي الآني المشروع على ذلك التاريخ… القريب البعيد!
لا أحد يمكنه أن يمنع المغاربة من ذكرياتهم الأليمة، بأي مبرر كان.. ولو كان مبرر الدولة المغربية نفسها.
ولا أحد يمنعهم من التخوفات التي تسلط عليهم، من منصات عسكرية شرقية في سياق إقليمي وثنائي، بيننا وبين الجزائر الدولة، حاد وعنيف ومتشابك…
وربما علينا أن نرعاه بما يليق من أخوة مشتركة، لا بألم فريد، بما يضعنا معا، نحن والدولة الجزائرية، تحت طائلة الضمير باستمرار إلى حين تنضج شروط تجاوز العداء الرسمي لبلادنا وبناء الهوية المشتركة التي تسقط الحدود وتسقط الجنرالات أيضا!
اليوم، بعيدا عن اللغة الديبلوماسية، نرى أن الجارة الشرقية تسعى، مرة أخرى، إلى تشييد نظرية الدولة خارج الأخلاق، ‮ ‬وهي على فوهة سقوط مدو، وفي مواجهة مشكلة الشرعية الداخلية مادة ملائمة للفكر العسكري‮ ‬وجنونه‮..‬
وفي قضية فجيج اليوم، امتحانات عديدة:
*الامتحان الأخلاقي :
فهي قبلت أن تكون نتيجة حدود الاستعمار، وقبلت بأن يكون كيانها الترابي كما اقتطع من المغرب، واقتطع من تراب الجيران، وقبلت أن تتنكر لأخوة السلاح والدين والتاريخ، لفائدة ما ورثته عن الاستعمار.. وبذلك يكون الاستعمار، وما تشكل تحت رايته، هو المظلة الأساسية لوجودها وهو معيارها في الوجود.
*الامتحان الثاني، امتحان بين القانوني والسياسي:
والوضع هنا، كالتالي : أراض في ملكية مواطنين، تصادف بفعل التاريخ والجغرافيا والتساكن السلالي، أن يكونوا مغاربة من فجيج.
هؤلاء المغاربة لهم أرضهم، التي يملكونها كمواطنين في العالم، وليس باعتبارهم ممثلي الدولة المغربية الرسمية، التي توجد داخل حدود معينة، أي الدولة كما تعارف على حدودها في بداية السبعينيات بناء على اتفاقية معروفة.
والآن، تريد الدولة الجزائرية ان تُسقط ملكيتهم لأراضيهم، باسم الدولة وباسم حدود الدولة..
هل كانت ستفعل نفس الشيء لو أن الأمر يتعلق بمالِكين تونسيين أو ماليين أو نيجيريين ؟
هل كان من الممكن أن تفعل ذلك بمِلْكيات ترابية لألمانيين أو فرنسيين، يملكون ضيعات وأراض فلاحية في الجزائر مثلا؟
لا يمكن..
بالنسبة لأهلنا في فجيج، يدركون أن العيش على الحدود، بفعل تاريخهم المغربي الطويل على أرضهم، يجعلهم في ملتقى الطرق السياسية والتاريخية والحربية والدينية والترابية.
أي، أن من يعيش على الحدود، يكون عرضة للتاريخ، كما يكون عرضة لاستراتيجيات الدول والحروب والتراشق، وكما يكون عرضة للتاريخ السلس، والحياة المشتركة والشعور الدائم بالتواجد في جسر تملأه الشعوب بالمحبة والعبور..
ويدركون أن الانتماء إلى بلادهم، ودولتهم، كما هي في التعريف التاريخي الذي صنعوا جزءًا منه، هي محصلة عملية جمع للأرض والإنسان والإدارة.
هي ذي الدولة، والمنتظر منها أن تحافظ على السيادة، عند وضوح الحدود وعند غموضها، وأن ترعى ما يخدم هذه السيادة، ويخدم العيش المستقبلي.
ولا نشك بأن الدولة المغربية، تقوم اليوم أولوياتها على هذه السيادة بالذات، ليس فقط في الحدود الشرقية، بل أيضا على الحدود الدولية الديبلوماسية للمغرب (ألمانيا كنموذج أخير في الدفاع عن السيادة)، وأن التحرك من أجل السيادة اليوم عقيدة، وليست نشاطا ديبلوماسيا أو تمرينا عسكريا بلبوسات ترابية فقط.
وأهلنا في فجيج، العمق الشرقي لحبنا، يعرفون بأن السياق يخلق المعنى، وأن الأمر لا يمكن تفسيره بنزوعات عدوانية محددة في التراب، في الزمكان..
بل السياق يجعل لخطوات الجيران معنى لا يخفى عليهم.
ولهذا فإن جزءا من السيادة المغربية هو أن يمارسوا حرياتهم وأن تمارس الدولة شرعيتها ودورها.
يقول الكبير عبد لله العروي ،«كل منا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية»، وكانت هذه أول عبارة في كتاب الكبير عبد لله العروي، «مفهوم الدولة»..
وقد كان الخالد محمد عابد الجابري يعرف إمارة المؤمنين، كما قدمه في البرنامج التلفزيوني الشهير للراحلة ملكة ملاك، «هي الذود عن حياض الوطن» …من بين مهام أخرى!
و«الدولة، صبر كبير»كما كتب ريجيس دوبري في مقدمة كتابه «الدولة المغرية» l état séducteur….
وكل هذا موجود اليوم في قوة الدفاع المغربي عن السيادة…
الآن، يبقى المنحى الذي يجب أن تتخذه الأمور خدمة للحق المغربي، والحفاظ على المبادرة والحق في الأرض: أعتقد أن الأمر ينبني على ما أسلفناه من قاعدة دولية في القانون الدولي من كون ترسيم الحدود او إعادة رسمها لا ولن يُسْقط ملكية المغاربة من أهل فجيج للأراضي التي بحوزتهم باسم القانون وباسم المواثيق وباسم الحق والعدالة!
وهو ما يجب خلق شروطه على الأرض، وأيضا في المنابر القضائية ذات الصلاحية، دوليا أو قاريا أو أمميا… إلخ.
ويدركون، بل علمونا مشكورين، أن العيش في الحدود مسؤولية كبيرة، حتى عندما ضعفت الدولة، كان هناك دوما من يحفظ على الحدود، بالجسد العاري، بالحرْكات وبالحملات وبالسُّربات، مناعة البلاد…
ويدركون أنهم ساهموا في صنع تاريخ الجزائر نفسها!
ولا داعي للحفر في الطبقات العميقة للتاريخ، بل نكتفي بالحديث منه!
كل هذه الكيمياء تحيا وتعود ونحن نتابع مايجري في الحدود الشرقية، في تخوم فجيج الحبيبة المجاهدة العصية.. وليست الدولة ضعيفة أبدا…
ولا تنقصها الشرعيات الضرورية، باسم التاريخ الجدلي لدى العروي أو التاريخ البياني عند الجابري، لكي تدافع عن أبنائها، بالمبادرة التي تراها هي مناسبة.. وتخدم الأفق الذي اخترناه.
لنا ما نفعله غير الوساوس العدوانية التي تخدم الطرف الآخر، لنا ما نبنيه طوبا طوبا وقلبا قلبا.
فالوطن يبنى فعلا بالقلوب ولا بالطوب، والأخوة بفجيج يعرفون عن جدارة عقلية وتاريخية بأن سقف الدولة لا يمكن أن يتجاوزه تحرك مدني مهما كان مشروعا، فالدولة الجزائرية لا تتحرك إلا كدولة، في حين نحن، تسمح لنا تشكيلتنا السياسية والمؤسساتية التي لا يملكون مثلها أن نتحرك في رقعة أوسع وبطريقة أشمل، غير أن تحرك الرسمي والمدني الشعبي يسيران في متواز واحد ولهدف واحد، ولا يمكن أن نعطي الفرصة لمحاكمة الدولة المغربية الملتزمة أخلاقيا بحق أبنائها، والملتزمة دوليا بالسلام الناجم عن اتفاق، مليء بالثقوب حقا، لكنه اتفاق ما يجعلنا نسير على هديه، هو أننا في كل قضايانا نسير مع شرعية دولية متكاملة الأطراف ومنسجمة ومتوازنة، لا نقبل بطبيعة الحال أن تحرم المغاربة من حقهم، ولكن فرضه عليهم نضجهم والتزامهم وحكمتهم…

نحن لم نتردد في نقل الوقائع، منذ بدايتها، ونحن الذين نعرف التاريخ الاتحادي في هذه المدينة، التي شكلت عمق الالتزام النضالي لهذا العبد الضعيف، عن طريق أساتذة، في التعليم وفي النضال السياسي، وبسطاء من فجيج، من أستاذي في الفلسفة وكاتبنا الإقليمي في ثمانينيات القرن الماضي الصعبة عبد الرحمان بوكيرو، شافاه لله وأطال عمره، وأساتذتي الصبري و بنعيسى، والمناضلين، من الذين حملوا القضية الديموقراطية كفاحا مسلحا، ورحم لله عبد لله ساعة ورحم لله بلقاسم وزان والفقيه الفجيجي، وكل الأحبة الذي نقلوا نداوة النخل والمحبة إلى قلبي…
وما كان لي أن أكتب بعد ما كتبه أستاذنا عبد الرحمان الحرادجي أستاذ الجغرافيا –جامعة محمد الأول– وجدة الذي كتب، بلتخيص العارف بأحوال المنطقة وتقلباتها«لقد استمر سكان فجيج في استغلال أراضيهم وممتلكاتهم شرق ما سمي بالحدود «المغربية الجزائرية»، بوتيرة كانت تمليها ظرفية التقلبات التي طبعت العلاقات بين البلدين المتجاورين بعد استقلال المغرب وبعد استقلال الجزائر، بل وحتى بعد المواجهة المسلحة المعروفة بـ»حرب الرمال»، والتي اندلعت بينهما سنة 1963 والتي استمرت مدة أربعة أيام. فهذه الحرب نفسها نشبت على أساس امتلاك أهل فجيج، وهم مغاربة، لأراض أصبحت السلطة الجزائرية تهيمن عليها بذريعة أنها وريثة ممتلكات الاستعمار الفرنسي، بما فيها تلك الأراضي التي تعود ملكيتها الفعلية والحقيقية للمغرب وسكانه»..
وهذا أمر يعطي معنى لما أعلنه نادي المحامين المغاربة، الذي صرح رئيسه بأن المحامين المغاربة مستعدون لمواكبة المتضررين بالمنطقة من التهجير العسكري لمغاربة «العرجة» من أراضيهم ..
إن المسار المؤسساتي، في المغرب، ثانيا يسمح بمتابعة الأمر، رسميا وشعبيا، ويخلق ظروف التآزر والتماسك الداخلي لمواجهة هذا الوضع، لأن المنطقة جد حساسة والظرفية كذلك، والحق أيضا يملك بدوره قوته التي تعبر عنها الروح العامة المشتركة بين الدولة وأهل فجيج…
ولا يمكن الختم بدون تعداد رهانات «داخلية» لأطراف لها علاقة بالأزمة، تريد «ثقب سقف الدولة»، وهو أمر لا علاقة لمناضلين وطنيين حملوا التراب الفجيجي الوطني بين جوانحهم في عز الأزمات، به، ولا علاقة لهم بالاشتراطات الأخرى للحل ولتسمية المشكل.. ولا يمكن أن نخطئ معهم في العدو!
ولا أن تكون حريتنا بنادق تُطلق إلى الخلف، من داخل حدودنا.
الحرية في صفنا والحق في صفنا .. والرهانات رهانات نشترك اليوم، في تقديرها رسميين وشعبيين!