يجتاز مسار النزاع المفتعل حول وحدة المغرب الترابية ظرفية جديدة، تطبعها متغيرات مستجدة، دولية وأممية وإقليمية، ذات مغزى سياسي، تستحق، بكل تأكيد، التوقف عندها ملياً، لاستبطان مفاعيلها، وتقدير تأثيراتها على مسار النزاع المفتعل في الحال والمستقبل…
وترصد، في هذا المضمار، أربعة متغيرات سياسية وجيوسياسية، ذات دلالة بالغة، من شأنها تعميق الوعي بحقيقة الرهان الكامن خلف مواقف العداء أو المنازعة لوحدتنا الترابية.
1/ أول هذه المتغيرات يتجلى في انفجار أزمات «الانفصال» التي تجتاح دولاً أوربية، وشرق-أوسطية، ذات كيانات دولتية عريقة، وتجانس شعبي، وانصهار ثقافي تليدين…
ويساهـــم هذا المتغير – بقطع النظـــر عن اختلاف محدداته من بلـــد إلى آخـــر، وتباين رهانــــاتـــه من جهة إلى أخرى – في تعزيز وتعميق وعي الرأي العام الدولي بخطل ومشبوهية العلاقة التي دأبت على الربط بين مخطط الانفصال وزعم الاعتصام بمبدأ «تقرير المصير» في كثير من الحالات.
وفي حالة النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، فإن أطروحة هذه العلاقة المشبوهة قامت وتقوم على تأويل تحريفي لمقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة حول «تقرير مصير الشعوب المستعمرة» (دجنبر 1960)، وهو المقرر الذي يستند في أسباب نزوله إلى مساندة ودعم حركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، من أجل الانعتاق من براثين الاستعمار وتعزيز كفاح الأقطار المستعمرة من أجل استقلالها ووحدة ترابها…
وفي هذا الصدد، ينبغي التذكير بروح ونص هذا المقرر الأممي، وذلك باستهداف أهدافه التحررية النبيلة، كما صاغتها الفقرتان الرابعة والسادسة في مبنى النص، وهما فقرتان مترابطتان ومتكاملتان، تشكلان قوام المقرر، حرص المشرع الأممي على الربط بينهما بشكل واضح وحاسم، استبعاداً لكل تأويل تحريفي لأهداف هذا المقرر.
وهكذا، فبمقدار ما تنص الفقرة الرابعة من نص المقرر على الحق الراسخ للشعوب المستعمرة في التحرر من الاستعمار و»الممارسة السلمية والحرة لحقها في الاستقلال الكامل»، تستدرك الفقرة السادسة من نص المقرر، مشددة على أن «كل محاولة ترمي إلى تقويض، جزئياً أو كلياً، الوحدة الوطنية والحوزة الترابية لبلد، تظل منافية لأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة».
ولا يخفى على نباهة الفاعل السياسي أن إقحام المقرر الأممي الآنف الذكر في مخطط الانفصال الذي ترعاه أوساط متنفذة في نظام الحكم بالجزائر الشقيقة، إنما هو تأويل تحريفي فاضح لمعنى المقرر ومغزاه، إنه محاولة فاشلة للتعتيم على حقائق التاريخ والجغرافيا والمشروعية التحررية التي تؤسس موقف المملكة المغربية…
ومن جهة أخرى، فإن اصطدام أطروحة «الانفصال» بأحكام القضاء الدولي، الصادرة عن «محكمة العدل الدولية» عام 1975، وبقواعد الشرعية الدولية، كما ترجمتها قرارات مجلس الأمن الدولي منذ سنة 2007 بصفة خاصة – فقد تدحرجت الأطروحة الجزائرية نحو التقوقع حول مطلب «الاستفتاء» الذي لا يشكل في نظر الجمعية العامة للأمم المتحدة ذاتها، إلا آلية واحدة ضمن عدة آليات، للتعبير عن «تقرير المصير».
وفي الحقيقة، فإن هذا التقوقع حول آلية «الاستفتاء»، يهدف إلى عرقلة جهود الأمم المتحدة في سبيل إنهاء هذا النزاع المفتعل الذي طال أمده.

2/ ثاني المتغيرات، ويشير إلى ما بات يتكشف من ازدواجية في مقاربة الأمم المتحدة لنزاع الصحراء المغربية.
ففي الوقت الذي يباشر فيه مجلس الأمن معالجة النزاع وفق مبدأ الحل السياسي التفاوضي، كما أقره سنة 2007، وكرسته قراراته المتتالية منذ ذلك الوقت، تتيه مناقشات «اللجنة الرابعة» للجمعية العامة للأمم المتحدة، حول نزاع الصحراء المغربية، في متاهات معاكسة لتوجيهات وقرارات مجلس الأمن.
ومما لا شك فيه، أن هذه المفارقة الصارخة بين موقف مجلس الأمن الدولي، ومنحى «اللجنة الرابعة» في موضوع نزاع الصحراء المغربية، يعكسان إشكالية أممية مزدوجة: إشكالية قانونية تتجلى في تجاهل مؤسسة «اللجنة الرابعة» التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة لمقتضيات ميثاق الأمم المتحدة التي تنص مادته الثانية عشرة، على سمو قرارات مجلس الأمن الدولي على ما عداها من قرارات وتوصيات هيئات أخرى، وإشكالية سياسية ناجمة عن ثقافة المناورة والالتفاف على الشرعية الدولية التي ما انفكت تطبع مواقف وحركات خصوم الوحدة الترابية المغربية في حظيرة «اللجنة الرابعة».
وتستدعي هذه الإشكالية المزدوجة التي تعرقل جهود السلام التي تبذلها الأمم المتحدة، وفي مقدمها مجلس الأمن الدولي، أمرين هامين:
-أولهما، ضرورة تحيين وتكييف مهمة ودور «اللجنة الرابعة» المنبثقة عن «الجمعية العامة للأمم المتحدة»، لكي يتجاوبا مع مستجدات الوضع الدولي في غرة القرن الواحد والعشرين، وهذه مسئولية تعود إلى قدرة وإرادة المنتظم الدولي في التجدد والتطور والإصلاح.
-ثانيهما، مواصلة دور المملكة المغربية في تعزيز وتوسيع جبهة النضال والعمل داخل «اللجنة الرابعة» في اتجاه تطوير وملاءمة دور هذه اللجنة مع مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة، ومع حقائق ومتطلبات عهد القرن الواحد والعشرين.
3/ المتغير الثالث، ويحيل على دور ومقاربة المبعوث الخاص الجديد للأمين العام للأمم المتحدة في موضوع نزاع الصحراء المغربية.
وفي هذا المضمار، فإن مهمة المبعوث الخاص الجديد، السيد هورست كولر، تواجهها تحديات ثلاثة:
I/ التحدي الأول: ويتصل بالمضي قدماً، بشجاعة وجرأة، في طريق تفعيل الحل السياسي للنزاع كما أقره مجلس الأمن الدولي، منذ سنة 2007، وأكدت عليه قراراته المتتالية، تباعاً، منذ ذلك الوقت.
وأولى خطوات هذه التقدم إلى الأمام: تفعيل المعايير التي حددها المجلس من أجل تفعيل الحل الأساسي.
وكما هو معلوم، فإن مبادرة المملكة المغربية لجهة إرساء «حكم ذاتي» في الأقاليم المغربية، موضوع النزاع، والتي نوه بها مجلس الأمن الدولي، واعتبرها «جدية»، «واقعية» وذات «مصداقية»، قد شكلت وتشكل مرتكزاً أساسياً وحاسماً لحل سياسي، تفاوضي، توافقي.
II / التحدي الثاني: ويتمثل في ضرورة استخلاص العبرة واستحضار الدرس إزاء ما اصطدمت به جهود الوساطة الأممية لمعالجة نزاع الصحراء المفتعل، من عراقيل ومناورات منذ عام 1990. إذ يعلم الجميع أن الجزائر كانت، واستمرت ولا تزال، تمثل الطرف الأساس، المحرك، والمؤجج لهذا النزاع الذي طال أمده، وذلك على خلفية أجندة جيو-سياسية، عفى عليها الزمن.
III/ التحدي الثالث: ويتعلق بأهمية العمل على تمكين الأمم المتحدة والرأي العام الدولي من معرفة العدد الحقيقي للمحتجزين المغاربة الصحراويين في المخيمات الجزائرية بتندوف، وإحصائهم بدقة وشفافية، تمييزاً قانونياً لهم عن كم العناصر الجزائرية والإفريقية التي زجت بها سلطات الجزائر في هذه المخيمات، لإعطاء مصداقية معدومة لأطروحة «الشعب الصحراوي».
4/ المتغير الرابع، وينصب على أهمية وحيوية التموقع المغربي الجديد على الصعيد الإفريقي، بفضل الرؤية البعيدة، والسياسة الحكيمة، والمثابرة النضالية لجلالة الملك، تفعيلاً للبعد الإفريقي للمغرب، وتثويراً لعلاقاته مع أشقائه الأفارقة، في اتجاه إرساء دعائم متينة للتعاون المتبادل، والشراكة المتوازنة، عبر وضع وإنجاز مشاريع تنموية مهيكلة، وفتح أوراش اقتصادية وتكوينية وثقافية تساهم في رسم معالم النهضة الإفريقية الجديدة. ولقد كان من نتائج هذا التطور النوعي في العلاقات المغربية-الإفريقية أن وقف العديد من القادة الأفارقة على حقائق النزاع المفتعل حول الوحدة الترابية المغربية، واستوعبوا خلفياته السياسية وأبعاده الجيو-سياسية.
إن هذه المتغيرات التي تنطوي على قدر كبير من الإيجابية بالنسبة لموقف المغرب، ولجهوده الدائبة في سبيل إنهاء النزاع المفتعل، وبعث روح التفاهم المغاربي، وتوسيع قاعدة التعاون الإقليمي والجهوي ، إنما تزيد من تعاظم مسؤولية ودور السياسة الخارجية للمملكة المغربية، سواء على المستوى الحكومي والبرلماني أو على مستوى المجتمع المدني الفاعل…
وفي هذا الاتجاه، فإن قرار جلالة الملك بإحداث وزارة منتدبة لدى وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، تُعنى بالشؤون الإفريقية في المجالات كافة، الدبلوماسية والسياسية والتنموية ، إنما تشكل مبادرة خلاقة من شأنها تعزيز المكتسبات التي حققها المغرب في فضائه الإفريقي، وترسيخ خياره الاستراتيجي على مستوى القارة السمراء…
وسيراً على خطى هذا التوجه الوطني، الاستراتيجي الرشيد، فإن من واجب الحكومة والبرلمان، العمل معاً على تأمين الوسائل المالية الضرورية للدبلوماسية المغربية، في إطار القانون المالي الجديد، برسم السنة المالية 2018، بما يمكنها من الوفاء بالمسؤوليات المنوطة بها، ويرفع من قدراتها على أداء مهامها بفعالية ونجاعة…

ذ. محمد الاخصاصــــــي

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..