عبد السلام الموساوي

1- لقد تعلمنا أنه لا يمكن قراءة الخطب الملكية بدون الرجوع إلى مضامين الخطب السابقة، وأن هناك خيطا رابطا بين جميع الخطب الملكية، وبالتالي فإن أي قراءة لا تأخذ بعين الاعتبار الخطابات السابقة تبقى قراءة معيبة وتزيغ عن الصواب.
عندما نقرأ خطاب العرش، 29 يوليوز 2020، فإننا نستحضر بشكل أوتوماتيكي خطبا ملكية أخرى حملت معها ثورات هادئة في مجالات الإدارة العمومية والديبلوماسية والجهوية المتقدمة ومراكز التكوين المهني والتعليم ومراكز الاستثمار الجهوي وميثاق اللامركزية… وغيرها من المجالات التي تهدف إلى تحسين حياة المواطن وتجويد الخدمات العمومية، وتسعى إلى تحقيق مقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية…
لقد جاء في أكثر من خطاب ملكي، أن تشريح وتشخيص الواقع بكل جرأة وموضوعية ليس نقدا هداما ولا يدخل في خانة جلد للذات، لكنه نقد بناء خاصة وأنه مرفق دائما بالاقتراحات والحلول الاستعجالية والاستراتيجية..
لقد شكلت خطب جلالة الملك محمد السادس جيلا جديدا من الخطب، إذ تميزت بالواقعية والموضوعية والجرأة، سواء في مجال تشخيص الواقع وانتقاد أداء المؤسسات والمرافق الإدارية…
خطاب العرش -2020- منسجم ومكمل لخطب جلالة الملك محمد السادس في الآونة الأخيرة، خطب تتميز بسمات جديدة لم يألفها المواطن من قبل ولم يتعود عليها ذوو المناصب والمحتكرون للثروة والسلطة… خطب متجددة وحداثية تتماشى وروح العصر، بل وتحمل في طياتها حمولات سياسية واقتصادية واجتماعية بلغة سلسة واضحة يفهمها ويتذوقها الجميع.
إن خطب جلالة الملك محمد السادس متميزة شكلا ومضمونا، وتشكل خارطة طريق لإخراج المغرب من كل الاختلالات السياسية والتنموية والاقتصادية والمجالية، لكنها في حاجة، ليس لمن يشيد بها، بل لمن يلتزم بها وينزلها إلى أرض الواقع.
خطب متماسكة ومنسجمة، تحكمها وحدة الهدف ووحدة الرؤية…
خطب مؤسسة على ثوابت مبدئية ورؤية واعية واستراتيجية…
خطب حية متجددة يحكمها ناظم مشترك؛ تنمية المغرب وخدمة المواطن…
خطب واعية وهادفة، خطب عقلانية لا تروم السيطرة على الوجدان بخطاب عاطفي…
خطب الحقيقة، واضحة شكلا ومضمونا، لغة وفكرا، منهجية ورؤية…. يقول صاحب الجلالة في خطاب العرش 29 يوليوز 2019 “نحن نريد سماع الحقيقة كاملة عما يجري في بلادنا وإن كانت قاسية ومؤلمة.” يقولها ملك البلاد بكل الوضوح الممكن، يقولها ويكررها لمن يريد أن يفهمه، لا لمن يريد فقط الإنصات لجلالته.
خطب صريحة وصارمة، خطب نقدية، جريئة وشجاعة…
وعلى المسؤولين الذين يقولون لنا دائما أن المصلحة العامة تهمهم أكثر من الخاصة أن يؤكدوا لنا هذه المرة بالملموس، بالفعل لا بالكلام، أنهم مقتنعون بهذا الشعار الذي يرددونه، وأن يحاولوا تدوير العجلة، وإخلاء المكان، والبحث عمن يستطيعون الحديث مع مغرب 2020 بلغة 2020 بل بلغة 2030 و2050 و…
إن المسألة تهم مستقبل وطن بأكمله، المستقبل الذي ينادينا، والذي يطرح على كل واحد منا السؤال؛ أي بلد سنتركه للأبناء والأحفاد بعدنا؟
جاء في خطاب العرش -29 يوليوز 2019 “أن المغرب ملك لجميع المغاربة، وهو بيتنا المشترك. وعلينا جميعا، كل من موقعه، أن نساهم في بنائه وتنميته، وأن نحافظ على وحدته و أمنه واستقراره.”
2- خطاب العرش -29 يوليوز 2020- كان خطابا بنفس اجتماعي متقدم، تعودناه من جلالته في خطبه كلها منذ اعتلائه العرش لكن خطاب هاته السنة وهو يأتي في زمن خاص من نوعه، يسميه الكل “زمن كورونا” جعل لهذا النفس الاجتماعي معنى آخر ووزنا أكبر.
الاستفادة من الجائحة ومن دروسها ومن المحنة الصحية والوبائية والاجتماعية والمجتمعية التي يمر منها العالم بأسره وضمنه بلدنا، تلك كانت هي النبرة الناظمة لخطاب العرش الذي تابعه المغاربة جميعا بكبير الاهتمام.
استفادة تعيد ترتيب أولوياتنا المغربية، وتضع في اعتبارها الأساس أكثرنا هشاشة الذين لا يمكن أن نتركهم على قارعة الطريق وأن نمضي، لأن هذا الأمر مستحيل، وبلدنا سيسير  بنا جميعا أو لن يسير.
المغرب، وملك المغرب قرر له منذ البدء أن يسير بنا جميعا. وهذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها جلالة الملك عن الفئات الهشة وعما يجب أن تفعله لإخراجها من وضعيتها.  لكن هاته المرة جلالته ذكرنا أن ما قاله في خطبه كلها أكدته الأيام، وأكده أساسا الزمن الصعب المسمى “زمن كورونا”.
لذلك كان الرد واضحا على سؤال  الهشاشة هذا من خلال رصد مبلغ مالي ضخم لمواجهتها، ومن خلال وضع خطة لا تتجاوز مدتها السنوات الخمس لأجل أن ندخل جميعا -دون استثناء- نظاما اجتماعيا يغطي لحظات ضعفنا، ويؤكد لنا أننا -جميعا- مرة أخرى أبناء وبنات هذا البلد وأنه لن يفرط فينا وأننا لن نفرط فيه.
كان خطابا متميزا مرة أخرى، وكان خطابا بنفس اجتماعي متقدم ذكرنا جميعا بأن ما يمسنا يمس ملك البلاد، وأن الشعور متبادل حتى الختام…
3- منذ إعلان حالة الطوارئ الصحية رأينا أن الملك في مختلف صوره ووظائفه، رأيناه رئيس دولة مكلف بالسهر على حماية المواطنين وضمان السير العادي لمؤسسات الدولة. ورأيناه أميرا للمؤمنين يقبل على قرارات شجاعة وأخرى إنسانية، ثم رأيناه أيضا قائدا أعلى للقوات المسلحة، وناظرا أعلى للأوقاف والشؤون الإسلامية… كل خزانه الدستوري استعمله دون أن تطأ قدماه خارج الدستور.
في الواقع ملك المغرب محظوظ جدا، ومصدر حظه أنه تمرس مبكرا على ما يشغل الحكومات حاليا على الصعيد الدولي: ألا تتحول التدابير الاستثنائية إلى سلطوية، وأن لا ينهار الاقتصاد، ولا يدفع الفقراء وحدهم فاتورة الكارثة أو القوة القاهرة.
منذ توليه العرش كان الاقتصاد شغله الأول، ووصف “ملك الفقراء” حينها يختزل الكثير من التمثل الشعبي لملك اختار أن ينتصر للفئات الهشة، وحتى مع ظهور التهديدات الإرهابية لم نطبق قاعدة الأمن أسبق من الديمقراطية. وحين هبت رياح “الربيع العربي” كانت الوصفة قد اختمرت: الديمقراطية والنمو والتنمية، وبها خرج المغرب من منطقة الزوابع الإقليمية والوصفة نفسها اليوم تعود للاشتغال بشكل مكثف ليخرج البلد من حالة الوباء القاتل.
وفي كل ما عشناه مع الوباء، كنا تحت قيادة ملك يدرس المعطيات الموضوعية جيدا، لكنه يضيف إليها كثيرا من الحدس والجرأة، وأساسا القدرة على التضحية، تلك القيمة التي قال عنها الآخرون من الجهات الأخرى من العالم: ملك المغرب يضحي باقتصاد بلده من أجل شعبه.
وما ميزنا عن غيرنا هو تلك الحكامة التي كانت في القمة من خلال اتخاذ مجموعة من القرارات في وقتها وبصمت وبمسؤولية وجرأة، وهذه المنهجية هي التي ساعدت على مواجهة هذا الوباء.
اليوم صدق المغاربة والمغربيات. اليوم تحققت نبوءات من سكنهم المغرب قبل أن يسكنوه. اليوم الكل يقول شكرا جلالة الملك.
المغرب بقيادة ملكه الحكيم واستنادا على تجربة القرون الماضية في الحكم، واستماعا لصوت العقل قرر أن يجعل هاته المعركة لأجل صحة وحياة شعبه أولوية الأولويات.
سنجتاز جميعا هذه الأزمة أكثر قوة لأننا أكثر اتحادا اليوم، فخورين بهويتنا الوطنية وانتمائنا لشعب عظيم بقيادة ملك عظيم….
درس مغربي متواصل على امتداد الأزمنة والأمكنة يجدد نفسه دوما وأبدا ويمنح إمكانية الاستفادة منه لمن كان ذا عقل سليم.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..