د. أحمد العاقد

الجزء الثاني – حصيلة العشرينية الماضية: المرآة المحدبة أم المرآة المقعرة؟

قبل أي استعراض لحصيلة العشرين سنة الماضية، ينبغي التذكير بأن جلالة الملك محمد السادس رسم الملامح العامة لبداية مرحلة حكمه، بناء على التراكمات التي خلفها المغفور له الملك الحسن الثاني، حيث حدد مجموعة من التوجيهات الكبرى لحكومة التناوب التوافقي في تفعيل السياسات العمومية المتعلقة بمختلف المجالات. وقد استند في ذلك إلى المقومات التي وضعها في إرساء دعائم العهد الجديد من أجل تأطير التحولات الجارية في المجتمع عبر العديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهكذا، أعلن جلالة الملك في خطاباته الأولى لسنة 1999 عن جملة من الالتزامات والأولويات الأساسية وفق نمط الحكم الجديد الذي ارتضاه، وطبقا للأهداف الكبرى التي سطرها لتدبيره السياسي. وقد وردت هذه الالتزامات والأهداف، بشكل خاص، في خطاب العرش (الجمعة 30 يوليوز 1999)، وخطاب ذكرى ثورة الملك والشعب (الجمعة 20 غشت 1999)، والخطاب الافتتاحي للدورة البرلمانية (الجمعة 8 أكتوبر 1999)، والخطاب الموجه إلى المسؤولين الترابيين وممثلي المواطنين (الثلاثاء 12 أكتوبر 1999). وبطبيعة الحال، شكلت هذه الخطابات الملكية الإطار السياسي العام الذي انبثقت عنه أفكار ورؤى جديدة في ما تلاها من خطابات لاحقة ضمن سياقات مغايرة ساهمت في تطوير الالتزامات والأهداف المعلنة.
فعلى المستوى السياسي والمؤسساتي، أكد جلالة الملك على التشبث بنظام الملكية الدستورية والتعددية الحزبية وإقامة دولة الحق والقانون وصيانة الحقوق والحريات وصون الأمن وترسيخ الاستقرار. وشدد جلالته على احترام الدستور وضمان فصل السلط وتوازنها واعتماد سياسة الجهوية واللامركزية، مع الحرص على الانفتاح السياسي وتقوية البناء الديمقراطي والمؤسساتي. كما تبنى مفهوما جديدا للسلطة يقوم على رعاية المصالح العمومية والتدبير المعقلن للشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي من أجل المساهمة في تحديث المغرب والتطلع للمستقبل بمنظور يزاوج بين الأصالة (المحافظة على الهوية) والمعاصرة (تعزيز التفاعل مع الآخر).
وعلى مستوى السياسة الداخلية، أولى جلالة الملك أهمية قصوى للاستثمار الاقتصادي والتطلع إلى تحقيق قفزة اقتصادية نوعية لتمكن المغرب من الزيادة في ثروته الوطنية وتعزيز موقعه ضمن الاقتصاديات الناهضة. واعتبر أن الرفع من القدرات الاقتصادية الوطنية ضروري لدعم التطور والنماء وتوجيهه بشكل متوازن لفائدة جميع الفئات الاجتماعية، خاصة تلك التي تشكو الحرمان أو تعاني القهر. وعلى هذا الأساس، وضع جلالته ضمن أولويات حكمه القضايا الاجتماعية حيث ركز على مجموعة من المحاور الهامة (الفقر، التعليم، التشغيل، العالم القروي، …) ومجموعة من الفئات المستهدفة الحيوية (الشباب، النساء، مغاربة العالم، الأشخاص في وضعية إعاقة …).
أما على مستوى السياسة الخارجية، فقد جعل جلالة الملك من الدفاع عن الوحدة الترابية محورا مركزيا في الارتقاء بعلاقاته الدولية مؤكدا على الموقف المغربي الداعي إلى إيجاد حل سياسي واقعي وتوافقي، وفي إطار مبادرة الحكم الذاتي. ورسم التوجهات الدبلوماسية العامة للمملكة منطلقا من قاعدة الجوار الجغرافي حيث أكد على الانخراط المبدئي والجاد في البناء المشترك للمنطقة المغاربية. كما دعا جلالته إلى تدبير ملف الشرق الأوسط على أساس الشرعية الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقرة الآمنة، وشدد على تقوية التعاون مع الأشقاء الأفارقة والأصدقاء الأوروبيين والأمريكيين.
على هذا الأساس، وفقط على أساسه، يمكن أن نعيد قراءة العشرين سنة الماضية من أجل القياس الموضوعي لمدى توفق جميع مكونات الأمة وكل مستويات الدولة في تفعيل السياسات العمومية الضرورية والملائمة للوفاء بالالتزامات المعلنة وبلوغ الأهداف المحددة. فالمسافة الفاصلة بين خط الانطلاق (خطابات 1999 وما تلاها) ونقطة اكتمال العشرينية (خطاب العرش لسنة 2019) كافية للوقوف على أهمية المنجز والحضور القوي للبصمات الملكية في الأداء العمومي. ونستعرض، ها هنا، جملة من الإصلاحات الكبرى والمشاريع المهيكلة مبرزين أن النجاحات كانت أكبر من الإخفاقات، وأن الإخفاق كان، في الكثير من الحالات، لأسباب موضوعية أكثر منها ذاتية.
فعلى الصعيد السياسي، عرف المغرب منذ بداية العهد الجديد انفتاحا سياسيا تأسس على تعزيز الحقوق والحريات من خلال طي صفحة الماضي وتوفير الشروط المناسبة لإنجاح العدالة الانتقالية التي شكلت، من خلال عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، تجربة نموذجية يحتدى بها على المستوى الدولي. وتعزز المجال الحقوقي بمجموعة من الإصلاحات الجوهرية، لعل أبرزها المقتضيات المتضمنة في مدونة الأسرة التي لم يعتبرها جلالة الملك محمد السادس إصلاحا منتهيا، بل ورشا مفتوحا للتقييم الدائم والتقويم المستمر من أجل معالجة الاختلالات العملية. كما شهدت العشرينية الماضية تقدما ملموسا في مجال البناء الديمقراطي وترسيخ دولة الحق والقانون من خلال قيادة إصلاح سياسي ومؤسساتي شامل توج بإقرار دستور 2011 الذي مثل تحولا عميقا في بنية الدولة وتنظيمها، وفصل السلط وتوازنها، وتقوية الآليات المرتبطة بالحريات العامة والديمقراطية التشاركية والحكامة العمومية وغيرها. ويظل المنجز الأهم خلال العقدين السابقين المحافظة على الاستقرار السياسي والأمني، وخاصة التدبير الحكيم لمرحلة «الضباب الكثيف» التي مرت منها المنطقة العربية، والتي لم تتبين خلفياتها ومقاصدها الحقيقية إلا بعد أن عصفت بكيانات ومجتمعات عريقة. وقد سجلت ذلك مجموعة من الدراسات والمقالات المنشورة على موقع معهد الشرق الأوسط Middle East Institute، معتبرة أن النظام الملكي على عهد جلالة الملك محمد السادس انخرط بشكل موفق في الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلت منه أحد أكثر الحكام العرب المعاصرين شعبية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تحققت القفزة الاقتصادية التي التزم بها جلالة الملك محمد السادس حيث تمكن المغرب من احتلال موقع متقدم ضمن الاقتصادات الإفريقية الكبرى كما يبرز ذلك التقرير الصادر مؤخرا عن مجموعة البنك الإفريقي للتنمية (Perspectives économique en Afrique 2019). فقد مكن التحول الاقتصادي من إنشاء بنيات تحتية مهمة وإنجاز مشاريع ضخمة (الطرق السيارة، القطار الفائق السرعة، ميناء طنجة المتوسط، المطارات، المناطق اللوجستيكية، تأهيل المدن والمجال الحضري، دون أن ننسى المؤسسات الثقافية والدينية). ومكن أيضا من تفعيل السياسات القطاعية الكبرى من خلال تنفيذ الاستراتيجيات الطموحة الهادفة إلى تعزيز القدرات الوطنية (الفلاحة، الصناعة، الطاقات المتجددة، الصيد البحري وغيرها).
وعلى الصعيد الاجتماعي، لا يمكن للمرء أن يتغافل التقدم المحرز، الملحوظ وغير الكافي، في ما يتعلق بنسب التمدرس وتراجع مستويات الفقر وتحسن مؤشر أمل الحياة عند الولادة وتعميم الخدمة العمومية الأساسية وتقوية مجالات الربط (الماء، الكهرباء، الطرق) وغيرها. غير أنه، على الرغم من الآثار الإيجابية للمبادرات الاجتماعية المتنوعة وعلى رأسها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لم يستطع إيقاع الأداء الاجتماعي مسايرة إيقاع الأداء الاقتصادي، لم يتمكن من مواكبة الحاجيات الاجتماعية المتزايدة والاستجابة للتطلعات المشروعة للمواطنات والمواطنين. الأمر الذي جعل العشرينية الماضية تنتهي بفتح ورش وطني استراتيجي يتجلى في دعوة جلالة الملك محمد السادس إلى بلورة نموذج تنموي جديد من أجل تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، عادلة ومنصفة.
أما على الصعيد الدبلوماسي، فقد توفق جلالة الملك محمد السادس في تفعيل رؤية جديدة للسياسة الخارجية اعتمادا على المقاربة الواقعية التي تمنح الأولوية لرعاية المصلحة الوطنية العليا والمنهجية التعددية التي تقوم على تنويع الشراكات الدولية. وقد تميز الأداء الدبلوماسي خلال العشرينية الماضية بالفعالية في المحافظة على المكتسبات والتدبير الاستراتيجي لعلاقاته مع مختلف الأطراف. ويكفي أن نشير، في هذا الصدد، إلى القرار الحكيم المتعلق بالرجوع إلى الاتحاد الإفريقي وإرساء آليات جديدة لدعم التعاون جنوب – جنوب (على سبيل المثال: المشروع الضخم لأنبوب الغاز)، كما نشير إلى المواقف الملكية المناصرة للقضية الفلسطينية، والارتقاء بالعلاقات مع دول أمريكا اللاتينية وما صاحبه من سحب للاعترافات بالكيان الوهمي، والتعامل المتوازن مع دول مجلس التعاون الخليجي، وغيرها. وعلاوة على ذلك، يتعين الإقرار بالحضور المغربي الوازن على الساحة الدولية وتميز مبادراته المختلفة المتعلقة بمعالجة القضايا المصيرية المشتركة من قبيل التغير المناخي وملف الهجرة ومحاربة الإرهاب والتطرف الديني.
وفي المقابل، يبقى التعثر الأبرز داخليا متمثلا في نجاعة السياسات الاجتماعية وضعف تناسقها كما سجل ذلك التقرير السنوي لبنك المغرب برسم سنة 2018، مما يعمق الفوارق الاجتماعية وينعكس سلبا على العديد من الفئات المجتمعية، خاصة الشباب والنساء، ويعوق التقدم في مجالات التربية والصحة والتشغيل على الخصوص. ويظل التعثر الأكبر خارجيا متجليا في عدم تحقق الاندماج المغاربي على الرغم من المبادرات الملكية المختلفة اتجاه الجزائر، وهو ما يكلف الطرفين المغربي والجزائري خسارة تقدر، في رأي الخبراء الاقتصاديين، بحوالي 10 ملايير دولار سنويا. وقد كان بإمكان الاندماج الاقتصادي للمنطقة المغاربية أن يتيح للمغرب والجزائر كسب ما يعادل خمسة في المائة 5 % من الناتج الداخلي الخام بحسب اللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة.
وإجمالا، لا يتسع المقام للتفصيل في مختلف التراكمات الإيجابية والإكراهات الضاغطة التي واكبت العشرينية الماضية من حكم جلالة الملك محمد السادس لأن المقصد استعراض المنجز الأهم بشكل موضوعي على ضوء الالتزامات والأهداف المعلنة في بداية العهد الجديد. إنها الصورة الواقعية كما يراها المتتبع للشأن المغربي والتي لا تحتاج للنظر في المرآة المقعرة بهدف تجسيد الانعكاس المكبر وتضخيم الأشياء (التقييم المجامل)، أو النظر في المرآة المحدبة بغرض الحصول على الانعكاس المصغر واستصغار الأشياء (التقييم المتحامل). وبنفس المنطق، ينبغي أن نتمثل التوجهات الكبرى التي حددها جلالة الملك للمرحلة المقبلة، على الأقل على مدى العشرينية القادمة، لنكون قادرين على استصدار الأحكام الموضوعية إزاء الطور الثالث للملكية المغربية الحديثة.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..