الجزء الثالث – من العهد الجديد إلى العهد المتجدد

يبدو من مضامين الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش (الاثنين 29 يوليوز 2019) أن جلالة الملك محمد السادس يبلور تصورا استراتيجيا للمرحلة المقبلة يقوم على ثلاثة عناصر مترابطة: أولا، تثمين المكتسبات ؛ وثانيا، مواصلة الإصلاحات ؛ وثالثا، تجديد الآليات. وينطلق هذا التصور السياسي الاستراتيجي من خيارات ثلاث كبرى تحظى بالإجماع الوطني، ذكر بها جلالته لتكون الموجه الأساسي للعشرينية القادمة. أول الخيارات الملكية الوطنية والمواطنة التي تجسد المدلول الحقيقي الوارد في الدستور إذ يتقاطع مدلول «الوطنية» مع رعاية المصلحة العامة عبر التطوير الديمقراطي والمؤسساتي والتدبير التشاركي والحكامة الجيدة، ويساير مدلول «المواطنة» الاستجابة لتطلعات المواطن وترسيخ المساواة والتضامن والعدالة الاجتماعية. ثاني الخيارات الجمع بين المسار الديمقراطي والإقلاع التنموي لجعل البناء المؤسساتي وعملية التحديث السياسي دعامة أساسية في تحقيق التنمية البشرية والاجتماعية، وجعل الشروط التنموية المتقدمة عاملا محفزا على التطوير الديمقراطي. وثالث الخيارات استثمار التراكمات التي حققها المغرب في العقدين الأخيرين في ما يتعلق بالإصلاحات والمصالحات والمشاريع الكبرى من أجل التقدم في المسار الإصلاحي وتعزيز تحديث الدولة والمجتمع خلال المرحلة المقبلة.
يتعلق الأمر إذن بتحول عميق في منهجية التجديد التي تعتمدها الملكية في تدبيرها السياسي الحكيم لقيادة الانتقال التدريجي من مفهوم «العهد الجديد» الذي أسس لأسلوب متميز في الحكم ولطريقة مغايرة في العمل العمومي إلى مفهوم «العهد المتجدد» القائم على البحث المتواصل عن الصيغ التدبيرية الأنجع والارتقاء المستمر بمستوى جودة المشاريع الاستراتيجية وفعالية السياسات العمومية. فإذا كانت العشرينية الماضية انطلقت من التأصيل للمفهوم الجديد للسلطة الذي بوأ المواطن الموقع المحوري في تدبير الشأن العام، فإن العشرينية المقبلة تنطلق، في اللحظة الراهنة، من صياغة مفهوم جديد للتنمية عماده الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والمجالية.
وفي هذا الإطار، تمثل الدعوة الملكية إلى بلورة نموذج تنموي جديد المنطلق الرئيسي لوضع التصور الاستراتيجي الشامل للإصلاحات المنتظرة من أجل تفعيل سياسات عمومية ناجعة ومتناسقة قادرة على الحد من الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية. ولعل التحدي الأهم يكمن في القدرة على الموازنة بين النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية كما سبق أن أكدت على ذلك بشكل مفصل في ورقتي: «عن النموذج التنموي الجديد: ضرورة الموازنة بين النمو والتنمية» (هسبريس – 10 غشت 2018، والاتحاد الاشتراكي – 18 / 19 غشت 2018). فالطرف الأول من المعادلة الرابحة في العشرينية المقبلة يتمثل في تسريع النمو الاقتصادي وانعكاسه على المجالات التنموية الأكثر حيوية من قبيل تحسين الدخل الفردي، والرعاية الصحية، وتطوير التربية والتكوين، ودعم تشغيل الشباب والنساء. بينما يتجلى الطرف الثاني في الارتقاء بالتنمية الاجتماعية لتكون عاملا أساسيا من العوامل المحفزة على الارتفاع التدريجي للنمو الاقتصادي والمحافظة عليه في المستويات الأفضل. إنها المعادلة التي حظيت بالاهتمام المتزايد على الصعيد الدولي، منذ سنة 2000، مع التأصيل العلمي الذي قام به الاقتصاديان البارزان في مجال التنمية كوستاف راينيس Gustave Ranis وفرانسيس ستيوارتFrancis Stewart في دراستهما حول «النمو الاقتصادي والتنمية البشرية» «Economic Growth and Human Development» (الصادرة بمجلةWorld Development، المجلد 28، العدد 2).
ومن أجل التجسيد الحقيقي لهذه المعادلة، لا بد للنموذج التنموي، الذي أراده جلالة الملك نموذجا مغربيا خالصا، أن يتملك الآليات الضرورية التي حددها جلالته في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب (الثلاثاء 20 غشت 2019) من أجل إفراز عقد اجتماعي متين، وهي آليات التقويم والاستباق والاستشراف. فعلى سبيل المثال، إذا كان المغرب يمثل(ثاني أفضل أداء في إفريقيا حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول التنافسية «The Africa competitiveness report 2017»)، فإن التراكم الإيجابي في البنيات التحتية الطرقية يقتضي تقويم طرق الاستغلال التقليدي من خلال اعتماد الأنظمة الحديثة والآمنة للنقل والتنقل كما هو الحال بالنسبة للدول ذات التجارب الرائدة. ويسلتزم الاستثمار الاستراتيجي في الشباب تبني مقاربة استباقية تأخذ بعين الاعتبار الإسقاطات الديمغرافية للساكنة كما صاغتها المندوبية السامية للتخطيط، والتي تتوقع أن يبلغ عدد السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة (الوافدون الجدد على سوق الشغل) 5,4 مليون نسمة سنة 2032. كما يتطلب الاستقرار الاجتماعي استشراف الأفق الإصلاحي لدعم الطبقة المتوسطة وآثارها البارزة في الاستثمارات الموجهة للتربية والصحة والسكن حسب التقرير الصادر مؤخرا (2019) عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE : « Sous pression: la classe moyenne en perte de vitesse »).
وعلى العموم، وحدها السياسات العمومية، المندمجة والمتناسقة، بالإرادة الجماعية والمؤسسات الناجعة والمحاسبة المسؤولة، ستكون مدخلا حاسما لتجسيد التوجهات الملكية عبر استثمار تراكمات العشرينية الماضية في الإقلاع الشامل بوصفه رهان العشرينية القادمة. والمأمول، بعد نهاية العقدين المقبلين، أن يبلغ المغرب المستوى الذي تكون فيه الممارسة الديمقراطية والتطور الاقتصادي مرآة صافية لبنيات المجتمع وذهنية المواطن، وأن تكون الحياة الاجتماعية والرأسمال البشري انعكاسا وفيا للتقدم السياسي والنمو الاقتصادي. ففي نهاية المرحلة المقبلة، يهم كثيرا أن نتوفق في الرفع من إنتاج الثروة وتوزيعها بشكل عادل من أجل تقوية التماسك الاجتماعي، لكن يهم أكثر – تفاعلا مع المقاربات الاقتصادية الجديدة المعنية بالبعد الأخلاقي، أن نتملك، أكثر فأكثر، القيم الوطنية وتعزيز التلاحم الوطني إذ لا تقدم ولا تحديث خارج القيم العليا المشتركة. وفي هذا الأفق الممتد والواعد يرتسم الأمل في المستقبل المشترك ويتضاعف الطموح الجماعي لكتابة صفحات من التاريخ المغربي ببصمات الطور الثالث للملكية الحديثة.

الكاتب : د. أحمد العاقد

(*) – باحث في التواصل وتحليل الخطاب، عضو المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
ومنسق لجنة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..