عبد الحميد جماهري

في اللحظات المفصلية، يدبر المغرب إشكاليات التطور المتعلق به بالتزام التوافقات الكبرى، تلك التي تشكل قاعدة لترشيد التاريخ وتوجيهه وعقلنته.
تم ذلك ويتم منذ،على الأقل، قرن من الزمن، عند الدفاع عن الحرية، وعن استكمال جغرافيتها، أو عند إعادة بناء الدولة، بعيدا عن موازين القوة حولها.
هذه المسلمة، يبدو لنا أنه من الضروري التذكير بها اليوم، ومبررات التذكير بالتوافقات الكبرى، ليس من باب تعطيل الخلاف واللاختلاف، ولا السعي إلى تقزيم التناقضات ( التناحرات الأساسية والثانوية، بلغة القاموس الدياليكتيكي الخالدة)، أو تعويمها في هيولى إجماع ما، بل هو ضرورة الارتكان إلى قوة إيجابية في تاريخنا المعاصر، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمقومين من مقومات بناء الدولة الحديثة: الوحدة الترابية، والديموقراطية!
في المغرب اليوم هناك حاجة إلى التوافقات الكبرى، على الأقل تحت سقف اللحظة الوطنية وما تعيشه من تفاعلات تغير من موقع بلادنا في الخارطة الإقليمية والقارية والدولية، وتتطلب التذكير بالتوافق الوطني الكبير، وتعاقداته، والتي تُلزم بعض القوى السياسية بأن توضح موقفها بلا مواربة ولا ترتيب أولويات خارج هذا المعطى الوطني…لاسيما وأن الوطن، والأوطان عموما، في الوضع الدولي كله، استعادت نفسها كوحدة قياس أولى، الوطن بما هو الوحدة الأولى لقياس السياسات، ثم إضافة الى عودة الجيواستراتيجية بمقومات الوطنية.
وهذا حديث يُحسنه من هو أعلم وأذكى وأكثر معرفة من هذا العبد الفقير لمغفرة ربه، ولا داعي للتفصيل.
وثانيا، لأن التوجهات الكبرى، وليس أقلها النموذج التنموي، تبحث – في الأهداف كما في وسيلة الحسم – عن توافقات كبرى، تبعدها عن رهان القوة وموازينه…
فليس الفضاء السياسي الحزبي، المؤطر بالدستور والقوانين المعروفة، هو الذي يحصل فيه الوضع اللاتوافقي: هناك بحث عن طريقة استخلاص ما يجب استخلاصه من عمل لجنة النموذج التنموي، وهناك أيضا ما حصل في مجلس المنافسة، حيث يكون هناك إمكانيات لبناء توافقات، لكن يفشل المسعى وتتداعى البناءات التي تم الشروع فيها…، وهذا يُحدثنا فيه ويعرفه السادة أهل السياسة أفضل من هذا العبد المذنب ..
في حاضرنا، المباشر على أي حال، قضيتان يمكن أن نستشعر فيهما الحاجة إلى التوافقات الكبرى …جزء أو كلا:المنظومة الانتخابية والقانون الجنائي، باعتبارهما على علاقة وطيدة بطبيعة الدولة التي نريد الوصول إليها، ودرجة نضجها الديموقراطي ومحاربة الفساد فيها، باعتبار هذا الأخير آفة رهيبة تشل الدولة والمجتمع…
هل يمكن الحديث فيهما عن وجود إرادة في تدمير توافق تم بناؤه؟
ليس للعبد الفقير إلى رحمة ربه من جواب، بل هي معاينات ثقيلة على القلب…
ففي المنظومة الانتخابية حصلت توافقات كبرى، غير أن بعض النقط الخلافية، جعلت من قوة سياسية لوحدها تعطل الوصول إلى نتيجة، أو إحالة القوانين إلى المسطرة الديموقراطية..
أي أنها ترفض التوافقات من جهة، ثم ترفض اللجوء إلى رهان القوة، ممثلا في المجلس الحكومي، ثم البرلمان..من جهة ثانية.
أما القانون الجنائي، فقد كان مقترحا حكوميا، وحصل فيه التوافق، غير أنه سرعان ما تهدم، وانهار، عندما تم انسحاب الحزب الذي يقود الحكومة منه. وبذلك انهار التوافق الذي تم داخل الأغلبية، وليس داخل المنظومة الحزبية ككل …
***
التوافق هو اتفاق إرادات، فيما رهان القوة يعتمد منطقا بعيدا يترجم وجود «استراتيجية للقوة» تفضي حتما إلى رابح وخاسر .. والحال أن الأمر يتعلق بمشاكل يجب حلها، لا حربا يجب الانتصار فيها.
و في المنظومة كما في القانون، نحن أمام ثلاثية يجب التفكير فيها، وهي :
هناك
1- – القوى السياسية التي ترى أن الممكنَ انتزاعُه من المواجهة أكبر من الممكن الحصول عليه بالتراضي.. بمعنى أن بإمكانها أن تحصل عن طريق النزاع على مكاسب أكثر مما تحصل عليه من التوافق، وهي قوى اعتبرت أن ما حصل في المغرب، منذ 2011، والجو العام الذي طبع المرحلة، هو يختزل في الموازين البدائية للقوة.
وبالرغم من أن النص السياقي للتحولات texte contextuel بلغة الفقهاء اللغويين، ونعني به الدستور، كان موضوع توافقات كبرى، تقوت بالاستفتاء الجماعي، ليس كعنوان لرهان قوة بقدر ما هو تعبير عن تلاقي الإرادات، فغالبا ما ترى هذه القوة أنها جديرة بتحصيل نتيجته، وحسم بياضاته بقوتها وحدها.
2- – القوى السياسية الأخرى التي تعتبر أن التوافق هو ممارسة الديموقراطية بأقل ما يمكن من الضرر، أو الجروح، التي قد يأتي بها اللجوء إلى ميزان أو رهان القوة…
ويكون التوافق بهذا المعنى ميل إلى رأي يحصل عليه اتفاق واسع، أو أغلبية واسعة وتقسمه قوى أغلبية، بدون وجود معارضة جدية عظمى له .. وهو حال الوضع السياسي اليوم…
3- – القوى السياسية التي تعتبر أن ما حصل من توافقات كبرى، لها تحصينات دستورية، وحوافز وحصون تسندها وتحميها، لا بد من اللجوء إليها في حالة تعطيل التوافقات التي تستوجبها المرحلة، بالنسبة لبلادنا لا مخرج لها سوى الوصول إلى قواعد لعب مشتركة، تكون قاعدة ومقدمة لموازين قوة بعدية قابلة للتدبير بدون اختلالات كبرى في المشهد الوطني، سياسيا كان أو مجتمعيا.
هي أفكار تنسجها المتابعات الحالية والخوف من «الحجر السياسي» الذي قد يخفي ما هو أقسى منه، أي الارتهان إلى منطق واحد في تدبير التعددية والإصلاح معا!

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..

المجد للشهداء في الأعالي، وعلى الوطن السلام!