حسن السوسي

غاية هذه الاطروحات هي المساهمة ولو من بعيد في النقاش السياسي المواكب لتحضير المؤتمر العاشر للاتحاد الاشتراكي، وهي بطبيعتها اولية وأقصى طموحها القدرة على اثارة نقاش مفيد ولو على هامش الأرضية التوجيهية العامة للحزب التي صادقت عليها اللجنة التحضيرية للمؤتمر والتي لم أتمكن من الاطلاع عليها الى حد الآن. لذلك فانها اطروحات على هامش النقاش بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وليست في صلبه .

١- كل حزب سياسي لا يواكب تطورات الواقع الذي يمارس ضمن معطياته الموضوعية، المباشرة وغير المباشرة، يحكم على نفسه بالفشل في رسالته وتحقيق أهدافه من الانخراط في الممارسة السياسية داخل المجتمع على مختلف المستويات. ذلك ان تجديد الخطاب وتطوير التصورات الموجهة باستمرار، هو الوحيد القادر على منح الحزب السياسي المناعة الضرورية في مواجهة عوامل الترهل الفكري والقصور السياسي والعجز التأطيري والانحرافات الممكنة جراء ردود الفعل غير المدروسة على تطورات موضوعية مفروضة وخارجة عن ارادته. وكذلك تحديات التطور الذاتي للحزب السياسي، وطبيعة تفاعل مكوناته العضوية وقدرتها على الاستيعاب الإيجابي، وعلى التجاوز والإبعاد للعناصر النابذة سواء لعدم قدرتها على مواكبة تطورات الحزب في محيطه الاجتماعي السياسي او لبروز او تكون مصالح خاصة ببعض النخب الحزبية خارج الإطار العام لممارسته وفِي سياق قناعاته الفكرية والسياسية وطبيعة تصوره للمصالح العليا للحزب ضمن المصالح الاستراتيجية الكبرى للوطن.

2- ان ثوابت الفكر السياسي، بعد تحديد التوجه الايديولوجي العام بالنسبة لأي حزب سياسي حي، هي الانطلاق من التحليل الملموس للواقع الملموس، وليس مباديء جامدة متكلسة تتم محاولة تطويع معطيات الواقع، عبثا، لتتلاءم معها، في حين ان العكس هو المطلوب. أي اخضاع كل التوجهات لمقتضيات التطور وعدم الانغلاق والتقوقع على الذات تحت مسميات الثبات على المبدأ والصمود في وجه رياح التغيير، غير المتوافقة مع تصورات الحزب. لأن هذا الانكفاء يدل على الخلل في النظرية وتهافت بعض من أسسها، ان لم يكن جلها. وهذا هو التفسير المبدع لفكرة لا نظرية ثورية دون ممارسة ثورية وليس ما ذهب اليه البعض عند فهمه بان الممارسة الثورية تعني اعتماد الاساليب الثورية الانقلابية في التغيير السياسي.
ان العمل السياسي الجماهيري، بمختلف تجلياته وأبعاده النقابية والثقافية والمدنية العامة، متى اعتمد فيه التحليل الملموس للواقع الملموس، وفِي سبيل تحقيق أهداف قريبة او بعيدة المدى، على قاعدة المصلحة العليا للمجتمع وبما يساهم في إنجاز خطوات ملموسة على طريق التغيير السياسي، هو التعبير الحقيقي عن العلاقة الموضوعية بين النظرية الثورية والممارسة الثورية. وهذا ينطبق على القراءة الموضوعية للتناقضات التي ينبغي الفعل فيها لخضوعها، من حيث النظر والواقع معا، الى التمييز فيها بين تناقضات ثانوية واُخرى أساسية وجوهرية في ضوئها يتم بلورة الخط السياسي للحزب الثوري. وهو ما يعني ان حسم التناقضات، عند مستوى معين من حدتها، قد يكون بواسطة العمل الجماهيري الواسع، خاصة اذا تعلق الامر بمستوى تنازع الشرعية بين القوى السياسية القائمة من موقع الحكم تمارس او من مواقع حزبية تعتبر نفسها وتعمل من اجل ان تكون البديل الشرعي لما تراه قد تحول الى نقيض للشرعية.

3- ان المرجعية الاشتراكية الديمقراطية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ليست مرجعية محنّطة، وانما هي مرجعية حية ينبغي الحرص على عدم المساس بالبعد الحيوي فيها، وهو ارتباطها المستمر بحركية المجتمع في مختلف المجالات، بحيث يكون هدف بناء المجتمع الاشتراكي المتحرر من الاستغلال وانعدام العدالة الاجتماعية متلازما بشكل جدلي فعال مع اعتماد المنهجية الديمقراطية التي لا غنى عنها في إقامة التوازن الضروري بين شقي هذه المعادلة.
ومن تبعات هذا التلازم عدم التوقف عن تحليل الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يمارس الحزب، في ظل معطياته الملموسة، وتوسل أدوات التحليل المتطورة التي أبدعها العقل البشري المعاصر. ذلك ان مواكبة كل المستجدات هي قاعدة التجديد الفكري النظري، وتجديد مقاربات الحزب السياسي بما يجعله معاصرا لنفسه وبيئته ويفتح أمامه آفاقا واسعة لمعانقة طموحات الجماهير، وجعل هذه الاخيرة اقرب الى استيعاب خطابه السياسي انطلاقا من مصالحها الحقيقية باعتباره الشرط الضروري لتحويل البرامج السياسية الى قوة ملموسة في نضالات الحزب والجماهير المشتركة لتحقيق مهام المرحلة النضالية ووضع اسس الانتقال الى مراحل اخرى متقدمة وبإيقاع متوازن.

4- ان تعقيدات الواقع الذي يمارس فيه الحزب، وتعدد الجبهات التي عليه التواجد المبدع فيها، يحتم عليه عدم إهمال هذا البعد التركيبي في قضايا الواقع، وتداخل عناصرها وابعادها، بعضها مع البعض الآخر، على رغم الاستقلال النسبي لمختلف حقول الممارسة، وإمكان التعاطي معها باعتبارها وحدات تتميز في عدد من ابعادها عن الوحدات الاخرى، في آن معا. وهذا يعني عدم إسقاط احكام حقل من الحقول على حقل آخر، دون ان يعني ذلك التعامل معها باعتبارها جزرا معزولة لا تواصل ولا روابط بينها.
ولا ينبغي تجاهل ضرورة التقدير المتواصل لطبيعة تلك الجبهات، من حيث قيادتها للمارسة وتكييفها في ضوئها، ومن حيث تحولها الى تابعة لغيرها بشكل مؤقت او على مدى زمني طويل نسبيا يغطي مرحلة نضالية بكاملها. ولعل العلاقة التي جسدها النضال الوطني في علاقاته مع النضال الديمقراطي في تجربة بلادنا تعطي الدليل الملموس على هذا التداخل والاستقلال النسبي لمستويي الجبهتين.
فإذا كان التركيز على مستوى النضال الوطني على قضايا الاجماع والتوافق في مكونات المجتمع الأساسية، على اعتبار اولوية هذا النضال على ما عداه، خلال فترات بعينها، فان هناك علاقة دائمة بينه وبين النضال الديمقراطي لان غاية التحرر من السيطرة الاستعمارية تظل في عمقها توفير الشروط الاساسية الضرورية لإمكان ممارسة الشعب لحريته وبناء الاطار السياسي الديمقراطي الذي يمارس فيه تصوراته وضبط طرق اشتغال مؤسساته الدستورية، بما في ذلك تأطير التجاذبات السياسية بين مكوناته الحزبية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الاطر الذي تؤشر على بعض ما يميز بعضها عن البعض الآخر. اذ لا قواعد ممكنة لتنظيم التنافس وممارسة الحرية دون اطار وطني متحرر من اكراهات وهيمنة الحالة الاستعمارية التي تظل النفي الحقيقي لكل ما هو ديمقراطي حتى عندما يلجأ الاستعمار الى احترام عدد من الحريات الفردية والجماعية لبعض فئات المجتمع، لأن العبرة لا تكمن في وجود تلك الحريات، وانما العبرة: في اي سياق وضمن اي أهداف قريبة او بعيدة؟. وليس خافيا انها في ظل الاستعمار تتوخى تكريس غياب السيادة والحرية والكرامة وكل ما يمت بصلة بالديمقراطية الحقيقية التي لا يمكن أقامتها تحت نير الاستعمار.

5- ان الحديث عن تحول العالم الى قرية واحدة بفضل مختلف الثورات التي عرفتها علوم التواصل وغيرها، لا يعني انه بالامكان إيجاد وصفة في التحليل ومعالجة المشاكل تصلح بحذافيرها وتطبق كما هي على مختلف مكونات هذه القرية المجازية، كما ان الحديث عن الشعب الواحد الذي ينبغي ان يؤطر مقاربة الواقع، ليس يعني تماهيا تاما لقضايا الشعب بمختلف فئاته، لأن هذا التماهي غير ممكن مبدئيا وعمليا لأن التمايزات على مستويات متعددة هي السمة الغالبة. لكن هذا الانتماء يضع تخوما حقيقية بين ما ينتمي عامة الى الشعب ويتصل بهمومه وما ينتمي لشعوب اخرى وهمومها ضمن القرية المجازية الواحدة دائما.
ان المبالغة والتطرف في اعتبار العالم قرية واحدة، غالبا ما يتخذ أشكالا كوسموبولتية تلغي مفهوم الوطن والمواطنة، وما يرتبط بهما من واجبات وحقوق تخضع لمحددات مرتبطة بمجمل تطور تاريخ هذه الوحدة الوطنية او الاقليمية اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وهي التي تضفي عليها خصوصيتها ضمن هذه القرية الواحدة
وفِي المقابل، فإن اعتماد مفهوم الوطن والشعب معزولا عن هذا المعطى الكوني لعلاقات التداخل والتفاعل بين مكونات هذه القرية الصغيرة يزج بالتصورات الايديولوجية والتصورات السياسية القائمة عليها الى نوع من الانعزالية الإرادية غير المؤثر في واقع الترابط الموضوعي القائم

6 لقد بينت تجربة التفاعل بين الاتحاد الاشتراكي وبين مختلف قوى العمل الوطني الديمقراطي الحزبية المختلفة ان الاتحاد يكون مؤثرا وفاعلا كلما كان مبادرا في طرح القضايا الاساسية لتطور الممارسة السياسية في بلادنا، بغض النظر عن ردود فعل البعض، من تلك القوى التي تبدو معارضة لمبادرات الاتحاد، ذلك ان الإصرار على تمريس الأفكار الجديدة يدفع بمختلف قوى الصف الوطني الديمقراطي الى التبني العلني او الضمني لتلك الاطروحات. وهنا ليس ممكنا نسيان الأثر الكبير الذي كان للتقرير الايديولوجي الصادر عن المؤتمر الوطني الاستثنائي للاتحاد منتصف السبعينات، اذ تحول الى ارضية مشتركة لكثير من قوى اليسار الاشتراكي الوطني، وكان بمثابة الأفق العام للممارسة السياسية في البلاد على طريق تكريس المزاوجة المبدعة بين الالتزام بقضايا الوطن الكبرى وخاصة على مستوى تحرير اراضيه المغتصبة، وبين البناء الديمقراطي من خلال اطلاق مشاريع الإصلاح في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وعليه، فان كل سياسة انتظارية في اطلاق المبادرات والانخراط في بلورة مشروع المغرب الحداثي الديمقراطي الاشتراكي بدعوى الحرص على ان يكون مشروعا توافقيا تشارك في بلورته كل قوى اليسار الوطني الديمقراطي لم تعد مجدية، بل انها من اخطر ما يواجهه هذا المشروع، لأن شرطه بقوى ليس ضروريا ان تكون مدركة لمختلف ابعاده بدرجة متساوية يعني ابعاده عن راهنيته وقتله في المهد.
ان هذا لا يعني ان يطلق الحزب العنان لكل ما يمكن تخيله من المبادرات السياسية على ان يلتحق به غيره، بعد ذلك، وانما الحرص على ان تكون تلك المبادرات وليدة حاجات موضوعية ومرتبطة بمصالح الشعب بمختلف قواه الوطنية والديمقراطية بحيث ترى فيها بعض القوى المؤثرة جزءا من طموحاتها وتطلعاتها خاصة متى استطاع الحزب التحرك التواصلي الفعّال بموازاة اطلاق تلك المبادرات لحشد الدعم لها داخل مختلف شرائح المجتمع المغربي لان تبنيها لتلك المبادرات هو الذي يحولها قوة جذب قوية

7 ينبغي ان يكون الهدف تحويل الحزب الى قوة جذب، داخل المجتمع المغربي، وإطارا لكل الفعاليات الفردية والجماعية التي يمكن ان تكون مساهمة في بناء المشروع الحداثي الديمقراطي الاشتراكي، من أي موقع كان. فهذا يضمن لمشروعه الفعالية التي يحتاجها، كما يكفل تجديد دمائه كحزب حي يعوض خسائر المسار النضالي ولا يحصر نفسه في مواجهة الذوات الفردية او البؤرية التي لن يجني منها غير هدر للجهد وابتعاد بهذا القدر او ذاك عن تركيز العمل على بناء المشروع وتطويره.
ولعل اللائحة التنظيمية ينبغي ان تكون في مستوى هذا الطموح الذي يعني الالتزام بالضوابط التنظيمية مع المرونة في قضايا الخلاف والحوار ليكون الحزب فعلا حزب عمل نضالي منضبط ومدرسة حوار فكري وسياسي لا تعرف الاقصاء الإرادي لهذه المجموعة او تلك، بل يتم فيه ترك الأمور لديناميكية الفرز الداخلي لتقوم بعملها التطهيري الطبيعي من خلال التركيز على ما هو اهم، ونبذ كل ما هو هامشي دونما حاجة الى ضجيج، لا جدوى منه ويخرج النقاش من مجراه الطبيعي ليزج به في متاهات تصفية الحسابات مع ما يترافق معها من تدخلات القوى التي ترى ان الحزب مناوئة لمصالحها الاستراتيجية او منافس لها في هذا المجال او ذاك.

مقالتي الأربعاء 5 مارس المنشورة بالاتحاد الاشتراكي

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

الكاتب الأول يحضر اللقاء التواصلي الأول لنقيب المحامين بالرباط

تقديم طلبات التسجيل الجديدة في اللوائح الانتخابية إلى غاية 31 دجنبر 2023