جواد شفيق

طيلة أطوار الندوة، التي خصصها التكتل لضيوفه الدوليين ، أسهب كمال القرقوري و إلياس فحفاح عضوي المكتب السياسي،و الرئيس مصطفى بنجعفر في رسم صورة مكبرة عن تونس ما بعد الثورة.
كان القلق سيد النبرات و العبارات، و كان الخوف على المآلات .
في السياسي كما في الاقتصادي و الاجتماعي و الديقراطي ، لا شيء ينبؤ بأن الثورة قد حققت غاياتها و أحلامها و انتظارات ثوارها .
ثمان حكومات منذ الثورة إلى الآن، حوار وطني تأسيسي، جائزة نوبل للسلام ، دستور جديد و انتخابات تشريعية و رئاسية…و يستمر الخوف من أن تتبخر أحلام الثورة.
يكاد يقع الجزم تاريخيا بأن ثورة الياسمين أو الشباب أو الكرامة أو الحرية و ما إلى ذلك من التسميات مما أطلق و نعتت و وصفت به ثورة الشعب التونسى المجيدة ، كانت أسرع ثورة في التاريخ البشري ، إذ ما بين 17دجنبر 2010 و 14 يناير 2011 ، أي خلال أربعة أسابيع فقط ، كان “الشعب قد أراد و القدر قد استجاب ” لتتحقق نبوءة الشابي و قصيدته الدائمة الحياة.
هرب رأس النظام ( هل زال النظام ؟؟) ، و علق العمل بالدستور ، و عطلت المؤسسات ،،لتنطلق تونس تحت أنظار العالم في تلمس طريق جديدة في التأسيس و المأسسة.
بعد عامين و زيادة من العمل المتواصل للمجلس الوطني التأسيسي برئاسة الأستاذ مصطفى بنجعفر،بكل ربوع تونس و مع كل أبنائها، صودق على دستور الجمهورية التونسية “الثانية” يوم 26 يناير 2014،(ثالث دستور للجمهورية بعد دستوري 1861 و 1959) ، بموافقة 200 نائب،و معارضة و امتناع 16 نائبا، فيما ” غاب” عن جلسة التصويت النائب رقم 217 المرحوم محمد علوش .
كان الجو مشحونا و متوترا لأن الجريمة السياسية و الاغتيال السياسي صارا يلقيان بظلالهما القاتمة ، فبعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين يوم 6 فبراير 2013، كان رصاص القتل قد طال النائب الشهيد محمد البراهيمي ،المناضل التقدمي الناصري الهوى، المعارض الشرس للنهضة، أمين عام حركة الشعب ثم التيار الشعبي الذي اغتيل يوم 25 يوليوز 2013 أمام بيته بأربعة عشر طلقا ناريا من طرف (إسم على غير مسمى ) هو أبو بكر الحكيم، في جريمة سياسية بشعة .
( الصورة أدناه مع أرملته الفاضلة السيدة مباركة عواينية براهمي النائبة بمجلس نواب الشعب حاليا ، و نجلته بلقيس بفضاء فندق Tunisia palace ) .
بعد مصادقة البرلمان في جلسة حضرها المنتظم الدولي بكثافة ، كان الختم سريعا من طرف رئيس الجمهورية منصف المرزوقي، و رئيس الحكومة علي العريض ، و مصطفى بنجعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي(27 يناير 2014) . و كأن التونسيين يقولون بأن الإرهاب لن يوقف دفق الثورة، و لن يهزم عنفوانها.
كانت مدنية الدولة، و كان احتكار الدولة للشأن الديني، و وقع الفصل الواضح للسلط ، و صارت الحرية و الحقوق و الكرامة و الديمقراطية هويات واضحة للجمهورية الثانية.
لقد رفع التونسيون شعار “السلطة للشعب le pouvoir au peuple” ، و هاهو الدستور يعطي لشعب تونس العظيم السيادة الكاملة.
ثم كانت هناك الهيئات الدستورية المستقلة (الفصل 125) ، إذ بالإضافة إلى المجلس الأعلى للقضاء(الفصل 112) ،و المحكمة الدستورية(الفصل 118) ، تم التنصيص الدستوري على إحداث هيئة الانتخابات (الفصل 126) ، و هيئة الإتصال السمعي البصري(الفصل 127) ،و هيئة حقوق الإنسان(الفصل 128) ، و هيئة التنمية المستدامة و حقوق الأجيال القادمة((الفصل 129)، و هيئة الحوكمة الرشيدة و مكافحة الفساد ( الفصل 130) …و وقع التنصيص على أحكام انتقالية لتركيز (تنزيل ) الدستور.
كانت المرحلة التاسيسية بتعبير الأستاذ مصطفى بنجعفر، رغم الملاحظات التي قد تكون عليها ، مهمة و حاسمة في إخراج تونس من مخاضات الولادة العسيرة إلى رحابة البناء المؤسساتي .
البناء المؤسساتي هذا ، هو الذي قال عنه كمال القرقوري في عرضه الشيق, بأنه متعثر ، إذ من بين خمس هيئات مستقلة لم تخرج إلى الوجود سوى واحدة (المجلس الأعلى للقضاء )، بحيث لم تحترم حتى آجال الأحكام الانتقالية،، لتدخل تونس لحظة شك ، يتقاسمه الكثيرون خوفا من الردة أو الارتداد .
أعطى كمال نموذجا لهذا التردد و هو يتحدث عن الانتخابات الجماعية المنتظرة . فقد “تقرر” تنظيمها مع نهاية السنة الجارية ، و لكن القوانين و التشريعات المرتبطة بها لم تر النور بعد ، علما بأن القوانين الحالية تعود إلى 1964 و تعديلات 1975.
و أما هيئة الحوكمة الرشيدة و مكافحة الفساد، ففيما كان ينتظر تركيزها (إحداثها) كجواب على مطالب الثورة بإسقاط الفساد والاستبداد، فوجئ التونسيون بمحاولة تمرير قانون للمصالحة (نسخة تونسية قانونية من عفى الله عما سلف البنكيرانية) ،ليتفجر على إثر ذلك رد فعل شعبي في حملة” منيش مسامح” .
و قس على ذلك بالنسبة لباقي الهيئات، مما يرجعه قادة و مناضلو التكتل إلى طبيعة التحالفات الهجينة (hybride ) القائمة، و التي قد تجعل بقايا النظام السابق تتسلل مرة أخرى و تعود (و هو ما سمعنا به أثناء التعديل الحكومي الأخير ).
لم يكن إلياس فحفاح ، وزير المالية ثم السياحة السابق(في الترويكا التونسية) أرحم و هو يبسط المشهد الاقتصادي والاجتماعي؛ ارتفاع مهول في منسوب البطالة،و بطالة الخريجين أساسا، تراجع في السياح و مداخيلهم، نقص حاد في الاستثمار الخاص الوطني و الأجنبي، انهيار متواصل للعملة الوطنية، انكماش اقتصادي مسترسل، و لم تسترجع تونس إلا الفتات من ملايير الدولارات المهربة ( 27 مليون دولارمن لبنان .. ).
و الحوصلة ؛ بتعبير إخواننا التونسيين ، أن الأفق الجميل الذي فتحته الثورة قد صار ملبدا بكثير غيوم سوداء ، تحجب الرؤية الواضحة، و تضغط على الأنفاس و العقول و تكاد تبدد الآمال.
مصطفى بنجعفر ، رئيس التكتل و رئيس المجلس الوطني التأسيسي لخص الوضع بمفردات بليغة و كثيفة “” لقد نجحت تونس ما بعد الثورة في ما هو تأسيسي(الدستور الذي حاز شبه إجماع) …و هي تعيش ترددا و تلكؤا في البناء المؤسساتي” .
ليس إخواننا في التكتل وحدهم من لمسنا عندهم هذا التوجس و القلق من مآلات الثورة؛ كل من التقيناهم كانت قسماتهم و جملهم تشي بذلك ،، بل منهم من فاجأنا بسؤال استنكاري بليغ :: أمن أجل هذا ثرنا ؟؟
لويس أيالا الأمين العام للأممية الإشتراكية، لم يدع الأمور تمر هكذا ، متشائمة حزينة، و بسط في مداخلة مطولة النموذج الشيلي ، الذي كان أفظع و صار مثالا في ديمقراطيته و منواله التنموي ، محرضا بذلك التكتليين و التونسيبن عموما على الأمل و العمل ، ثم الأمل فالأمل فالأمل، لأن إرادة الشعوب لا تقهر..
سرنا على منواله ، أنا و ممثلة السويد ، و النائبة الأوروبية ممثلة الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني Psoe ،، لتختتم الندوة في جو من الأمل الكبير.
بعد وجبة الندوة الدسمة، دعينا لوجبة عشاء فخمة بقصر بيرم ، بقلب المدينة العتيقة، جوار مسجد الزيتون ، كانت الجلسة حميمية، إنسانية أكثر منها رسمية أو بروتوكولية ،تعرفنا فيها عى على بعضنا أكثر، على جزء آخر من معمار و تراث و طبخ تونس ، و تعرفنا على مزيد من أطر التكتل ذوو التكوين العلمي العالي المقيمين بالمهجر .
و بعدها كان السمر اللذيذ رفقة جمال بلول و لويس أيالا و ال “Vieux Mogan” التونسي .
صبيحة السبت 9 شتنبر ، كان الافتتاح الرسمي للمؤتمر الذي ينعقد بقصر المؤتمرات تحت شعار “أيادي نظيفة من أجل تونس عادلة”، عدد المؤتمرين كان في حدود 250 مؤتمرا و مؤتمرة مع حضور لافت للشياب و النساء.
طال الإنتظار بعض الوقت ، لأن ممثل رئيس الجمهورية لم يحضر بعد ، و في حدود الحادية عشرة ستنطلق الجلسة بإدارة موفقة من العزيز معز بن ضياء ، النشيد الوطني ، ثم شريط عن التكتل ، ثم كلمة مطولة للرئيس مصطفى بنجعفر، وجه فيها كلاما قويا للطبقة السياسية التونسية التي كانت ممثلة في القاعة بأكثر من عشرة أحزاب، انتقد فيها التحالفات القائمة، و تنازلات النهضة المتواصلة، و تأخر تركيز الهيئات و المؤسسات الدستورية، مؤكدا بأن السياسة إما أن تكون أخلاق أو لا تكون ، و بأن التكتل قد اختار الوطن أولا و دائما و أخيرا، و بأن الضمير الجمعي التكتلي مرتاح و سيظل يعمل بروحه الوطنية من أجل تونس حرة، عادلة، ديمقراطية و منفتحة.
بعده ، كان ممثل رئيس الجمهورية ثم لويس أيالا، و عباس زكي باسم فتح ، و ممثل الحزب الاشتراكي السويدي، و المصري حسين جوهر المنسق العام للمنتدى الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي(رسالة صوتية بعد أن منعت عنه السلطات التونسيةتأشيرة الدخول لأراضيها ) ، و ممثل الحزب الاشتراكي الالماني ، و ممثلة الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني،و جمال بلول عن جبهة القوىالاشتراكية الجزائري، ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية( السرد هنا بدون ترتيب) …
جميعنا تمنينا النجاح للتكتل، و عبرنا بقوة عن أملنا الكبير في أن تتكلل ثورة تونس الملهمة بمزيد من النجاح.
كان من بين ضيوف التكتل ، شخصيات رفيعة في مقدمتها المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية السابق أو “L’homme qui n’a pas su être président ” ( عنوان كتاب صدر مؤخرا لصاحبه نزار بهلول) ، و كان هناك الشيخ راشد الغنوشي زعيم النهضة ، شريك نداء تونس في الحكم ،و قد لاحظنا بعد مغادرته بأنه يتحرك فيما يشبه موكبا رئاسيا ..
الإثنان معا لم يتابعا الجلسة الافتتاحية إلى نهايتها،، خمنت حينها بأن كلام الأستاذ مصطفى بنجعفر القوي و الواضح ،قد كان له الأثر عليهما.
كانت جلسة ناجحة، ارتقى فيها مصطفى بنجعفر إلى مصاف الكبار بإعلانه عدم ترشحه لرئاسة التكتل و فسحه المجال لجيل جديد من القادة ( سينتخب المؤتمر خليل الزاوية رئيسا و هالة بن يوسف نائبة له).
انتقل التكتليون إلى الحمامات لإنهاء أشغال مؤتمرهم ، و عدنا نحن لمزيد من استكشاف تونس العاصمة؛ متابعين الأشغال عن طريق صديقنا معز بن ضياء.
معز بن ضياء ، شاب تونسي ، مقيم بباريس، مسؤول العلاقات الدولية للتكتل، يتحدث لغات كثيرة بطلاقة، يدخن بشراهة، فارع الطول ، قوي البنية، أبيض البشرة، بوجه طفولي جميل و عينان زرقاوتان ، كثير الحديث و الشرح؛طيب المعشر، …تعرفت عليه بعمان/العاصمة الأردنية خلال اجتماع دوري للمنتدى الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي، حضر مؤتمر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الأخير ؛ و منذها توطدت علاقتنا حقيقة و فيسبوكيا ،
طيلة مقامنا بتونس كان أحرص ما يكون على أن يكون مقامنا طيبا ، و هو ما كان.
” لقد انتظرت تونس عهودا لتعيش هذه اللحظة، لحظة ذهول و جزع مشحون بالأمل حلق فيها الضمير الجمعي و الأنا الوطني في أرقى طبقات الأمل و النخوة و الكرامة ، حتىو إن أجبر الجميع على النزول سريعا إلى واقع مرتبك و إلى معترك الحقيقة العارية لخوض معركةالخوف و الشك. و لكن و لئن ولت اللحظة الملحمية فإن تردداتها ستظل أبدا تعود بهذه الشحنة الخلاقة لتحمي ذاتها بذاتها و من ذاتها .”( مقتطف من الكتاب/الحوار القيم للأستاذة بجامعة السربون كلثوم السعفي حمدة مع المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي ” الثورة و الحداثة و الإسلام “) .
تلكم هي نفسها الخلاصة التي خرجنا بها أيضا،، و معناها أن العمل من أجل الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و الحرية و الكرامة فعل دائم و مستدام.
انتهى، و إلى اللقاء مع فصول رحلة أخرى.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..