حسن السوسي

هل يمكن الحديث، في الزمن المنظور، عن فترة استقرار طويلة الأمد واحترام سيادة الدول والشعوب، على قاعدة شرعة الأمم المتحدة وثوابت العلاقات الدولية المرتبطة بضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين؟ وهل يمكن احترام مبدأ تقرير مصير الشعوب ووحدتها الوطنية والترابية وعدم الزج بها في صراعات ذات طابع قومي ومذهبي وطائفي لتبرير تمزيقها وتفكيكها تحت مسميات الحق في تقرير المصير الذي تحول من اداة نبيلة لتحرير الشعوب من ربقة الاستعمار والاضطهاد الى اداة بيد قوى التفتيت والاستعمار الجديد لخدمة اجندات مناقضة تماما لما يتم الإعلان عنه من أهداف؟

يستمد هذان السؤالان شرعيتهما من معاينة مختلف النزاعات المحلية والإقليمية ذات الأبعاد الدولية، الضمنية او الصريحة، التي لم تتوقف يوما عن البروز هنا، والاستفحال هناك، والافتعال تارات عديدة، دون ان تجد طريقها الى الحل. ولا فرق هنا بين النزاعات التي صدرت حولها قرارات مجلس الأمن الدولي وبين التي لم يتم تدويلها بشكل صريح غير ان استمرارها دون حل يعني تدويلها حتما في نهاية المطاف.

ان المفارقة التي يضعنا هذا الوضع امامها تشير الى خطورة اللعب بالمباديء التي تم سنها على المستوى الاممي لخدمة شعوب العالم قاطبة لاختزالها في مجرد أدوات تنحصر في اداء وظائف الاستعمار الجديد وقوى الهيمنة التي تجدد اساليبها وتحاول التلويح بيافطات الحقوق لقضمها ودوسها ولو أدى ذلك الى استخدام قوة السلاح في خرق صريح وواضح للقانون الدولي ولشرعة الامم المتحدة.

ولن يعدم المتابع للوضع وتحليل الأزمات والنزاعات المحلية والإقليمية ذات البعد الدولي القرائن بل والحجج الدامغة على ان عددا من الدول الاقليمية والقوى الدولية المؤثرة لا تتردد في اختلاق ازمات ونزاعات تارة او استغلالها لخدمة اجنداتها الخاصة تارة اخرى، عبر اللجوء الى تأويل هذا المبدأ او ذاك من مباديء القانون الدولي بحيث يتم تكييفه مع تلك الأهداف حتى في الحالات التي يتناقض فيها معها على طول الخط.

ولعل قضية الصحراء المغربية وافتعال نزاع إقليمي حولها، دون وجه حق، من الأمثلة الدالة على هذا الواقع، حيث تم استغلال مزاعم وجود شعب صحراوي مستقل عن الشعب المغربي لتبني أطروحة الاستعمار الاسباني الذي حاول انشاء دولة قزمية على الأقاليم الجنوبية المغربية، وهي الاطروحة إياها التي دافعت عنها القيادة الجزائرية واستخدمتها للنيل من مساعي المغرب لاستكمال وحدته الترابية، ولم تتخل عن هذه الاطروحة الى حد الان، لانها تحولت بالنسبة اليها الى قاعدة أساسية لتبرير مناصبتها العداء للشعب المغربي في مختلف المحافل الاقليمية والدولية. ولا يبدو في الأفق ان النظام الجزائري قد يغير من هذه الاستراتيجية المعادية، بل انه لن يدخر وسعا في افتعال كل المشاكل الممكنة لمنع منطقة المغرب الكبير من الاستقرار لإدراكه ان هذا الاستقرار سيكشف لا محالة سلوكه السياسي والدبلوماسي المناهض لكل تقارب بين دول المنطقة، فأحرى ان يساهم في بناء مشروع الاتحاد المغاربي الذي اصبح رهينة هذا النظام بالذات.

ولقد تم، على مستوى آخر، اخراج مبدأ تقرير المصير من الأدراج بهدفه الانفصالي، لتهديد وحدة العراق، في خرق صريح لدستور البلاد الذي يحدد العلاقة بين اقليم كردستان والسلطة المركزية ببغداد وقرارات الشرعية الدولية بدعوى ان الأكراد قومية متميزة. وهذا من باب قول الحق الذي يراد به باطل، لان طبيعة الكيانات والدول في المنطقة متعددة القوميات أصلا، وإذا فتح هذا الباب باسم تقرير المصير ببعده الانفصالي التام، مع ان ظروفه غير متوفرة وفِي مقدمتها الاستعمار، فان هذا يعني الدخول في حروب أهلية لا تنتهي في العراق وسورية وإيران وتركيا وغيرها من البلدان. ولعل انفراد اسرائيل وبرنار ليفي بدعم انفصال أكراد العراق، كاف لكشف طبيعة هذا التحرك المشبوه في هذا الظرف بالذات حيث بدأ نجم تنظيم داعش في الأفول في المنطقة. كما لو ان من وراء هذا التحرك حريص على ان تظل المنطقة بؤرة توتر مستمر بما يعني محاولة خلق بديل عن القاعدة وداعش والنصرة للإمعان في تدمير المنطقة.

هذا لا يعني ان هذه التوجهات الانفصالية حكر على منطقة الشرق الأوسط حيث تلعب أيادي اجنبية ادوارا ملموسة في دعم تلك الحركات، بل ان هذه الآفة تفعل فعلها في قلب اوروبا ذاتها. وما حالة كاتالونيا الاسبانية الا مثال على هذه الاتجاهات الخطيرة، ليس فقط على بلدانها وانما، أيضا، على الاتحادات والتكتلات الدولية التي تنتمي اليها. وهذا ما يفسر موقف مدريد الصارم من استفتاء انفصال كاتلونيا ورفض الاتحاد الاروبي تزكية هذا المسعى وممارسة كل الضغوط السياسية والمعنوية الممكنة لثني كاتالونيا عن اعلان الانفصال، لانها في هذه الحالة ستجد نفسها خارج الاتحاد الاروبي، وعليها، بالتالي، ان تمر بكل المراحل الضرورية من المفاوضات اذا ارادت الالتحاق بالاتحاد. هذا اذا كان هناك اجماع حول مبدإ الانضمام اليه، وهذا مستحيل لان اسبانيا لن تقبل بهذا الأمر تحت اي ظرف من الظروف.

ان التأمل في هذه الحالات يوضح ان مواقف سياسية واستراتيجية مسبقة هي التي وراء اثارة كل تلك النزاعات وان مصالح الشعوب لم تكن قط في صلب تلك الاستراتيجيات. وان مبدأ تقرير المصير الذي جاء خدمة للشعوب في مواجهة الاستعمار قد تحول الى اداة في يد هذا الاخير لتدمير الاوطان. وعليه فان على كل محبي التعايش والسلام والاستقرار الجهر بقول: كفى من هذا الاستغلال.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

الخروج  اليوم عن المبادئ والقواعد والأعراف والتوافقات ترجمة لمنطق التغول : إلزامية عدم التراجع عن المكتسبات التي سبق إقرارها في النظام الداخلي

حتى  لا تتحول مجالس الحكامة الى آلية للتحكم

اليوم يفتتح ذ.إدريس لشكر المؤتمر الوطني لقطاع المحامين

الأغلبية تظهر «وحدة الواجهة ـ الفاصاد»، وواقع مكوناتها يؤكد ما قاله الاتحاد وكاتبه الأول..